توسعة المسعى بين الصفا والمروة
حكمُها وكشف الخداع فيها
تأليف
أسامة بديع سعيدان
2008م
حقوق النشر غير محفوظة
فالرجاء نشر الكتاب ابتغاء الدفاع عن شعيرة من شعائر الله U
يُسمَح بطباعة الكتاب وتوزيعه بجميع الوسائل، كما يُسمَح
بالاقتباس منه
مقدمة
الحمد لله رب
العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما
بعد:
فهذه رسالة
مختصرة، اقتصرتُ فيها على المعلومات المفيدة لعموم الناس، ولطلبة العلم الذين
لا يجدون وقتاً لمراجعة وبحث المسائل الفقهية، فصاروا يأخذون فتاواهم من بعض
مشايخ الفضائيات الذين يبيحون ما أباحه أو حرمه الله، وأمّا العلماء
العاملون فإنهم لم يترددوا لحظة في حكم تغيير شعائر الله، ومثلُ هذه الأمور
واضحة عندهم أكثرَ مِن وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن الذي أشكل عليهم هو ادعاء
القائمين على توسعة المسعى بأنّ التوسعة ما تزال ضمن الصفا والمروة، واستدلوا ببعض
التحريف والخداع، فخدعوا علماء المسلمين فانخدَعَ بعضُهم لهم.
والدافعُ
لكتابة هذا الكتاب أنني علِمتُ
إجماع الأمة على حرمة توسعة المسعى لأكثر مما بين الصفا والمروة، وعلِمتُ تواتر
النقل إلينا في تحديد الصفا والمروة، ورأيتُ صوراً "فتوغرافية" كثيرة
تؤيِّد هذا المتواتر، وكلُّ هذا لم يَختلف عليه اثنانِ حتى ما قبلَ عدّة سنوات، ثم
طرح الملك عبد الله بن عبد العزيز فكرةَ توسيع عرض المسعى لمناقشتها من قِبَل
علماء الشريعة، فسارع أصحابُ المصالح مِن بعض العلماء وغيرهم لتأييد فكرته وأنها
صحيحة بلا أدنى شكٍّ وأنّ فيها كاملَ رضى الله ورسوله r ([1])، ثم قام المسؤولون عن توسعة الحرم بتجاهل فتوى هيئة كبار العلماء التي
تحرِّم توسعةَ المسعى، ثم لم يَعرِضوا هذه المسألة على أيِّ مَجمَعٍ علميٍّ ولا
حتى على رابطة العالم الإسلامي الموجودة بمكة المكرمة، كما قاموا بنشرِ أيِّ شيءٍ
يؤيِّد ويبيح توسعة المسعى ولو كان تحريفاً أو خداعاً أو قلباً للحقائق([2])، ثم رأيتُ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة
قد انحازت انحيازاً تامًّا لرأي مبيحي التوسعة، بل وَصل الأمر ببعض الجرائد
السعودية أن طلبتْ مِن علماء الأمة الإسلامية كتابة رأيهم في حكم التوسعة، ثم
أخفتْ كلام مَن حرّم التوسعة ونشرتْ خلالَ أشهرٍ كلَّ ما جاءها مؤيِّداً للتوسعة،
وهذا خروج عن أصول المهنة الإعلامية وعن الحيادية، كما أنه دليلٌ على خداع مُمَنهج،
وهذا واللهِ عينُ الكذب والخِداع للقارئ الذي حُجِبَتْ عنه أدلةُ المانعين وحُجِبَ
عنه بيانُ خِداع أو تزوير أو إباحيّة المبيحين، وكذلك فإنّ بعض مواقع "الإنترنت"
الإسلامية قد خصّصتْ مُلحقاً خاصًّا لمناقشة توسعة المسعى، ثم أخفتْ كلام
العلماء المانعين ولم تذكرْ سوى أقوالِ المبيحين، وكذلك فإنّ المتابِع لوسائل
الإعلام المرئية يجدُ التهميش الواضح والتعتيمَ الكامل على فتاوى العلماء المانعين
من التوسعة.
فنَتَجَ عمّا
سبق ذكره أنْ ظنّ عامة المسلمين وكثيرٌ مِن علمائهم أنّ الحق في أمر التوسعة مع
المجيزين وأنّ رأي المانعين شاذٌّ وغيرُ معتبَرٍ، ولهذا شَمَّرتُ عن ساعد الجِدِّ
وجمعتُ هذا الكتاب نصيحةً لله ولرسوله r ولأئمة المسلمين وعامتهم، وغيرةً على شعائر الله أن
يدخل فيها ما ليس منها، وشفقةً على المشايخ الذين أباحوا التوسعة لثقتهم بالقائمين
على شؤون الحرم دونَ أنْ يَعلموا عن المسألة شيئاً، ألاَ هل بلَّغتُ؟ اللهمّ اشهد.
وملخّص
الكتاب أنني أشَرتُ
إلى موقفنا مِن شعائر الله، ثم بيّنتُ إجماع الأمة أنه لا يصح السعي خارج المسعى
المحدد بالتواتر وأنه لا تصحُّ زيادة مساحته، ثم بيّنت اهتمام المسلمين قديماً
وحديثاً بضبط وتحديد طول المسعى وعرضه بدقة، ثم ذكرتُ شُبَه مبيحي التوسعة وبيّنتُ
بطلانها بالأدلة القاطعة والواضحة حتى لعموم الناس، ثم ذكرت حكمَ مَن يسعى في
المسعى الجديد ولو شوطاً أو خطوة، ثم ختمتُ هذا الكتاب بعدّة نصائح لي
وللمفتين ولكلِّ معتمر وحاجٍّ، ثم لم تَطِب نفسي حتى نصحتُ إخواني الحجاج بأنّ
أغلبَ رمي الجِمار لا يصحُّ أيضاً، كي يَبحثوا في الأمر ويُصَحِّحوا
عبادتَهم، كلٌّ بما يُلهِمه الله U.
وقد أنشأتُ
صفحة فيسبوك خاصة لمناقشة موضوع توسعة المسعى، ونشرت فيها الكتاب ومعه صور
"الفوتوغرافية" تُظهِر بوضوح تام ما أجمعتْ عليه الأمة؛ كي يَظهر الحقُّ
رأيَ العين، وهذا عنوان الصفحة: www.facebook.com/alsafa.almarwa2 [حذف فيسبوك هذه الصفحة بتاريخ 27/10/2024
تقريباً، وهي آخر منصة لنشر الكتاب، ويبقى هذا الرابط للوصول لكل التفاصيل: https://saiydan.com/183 ]
وقد
اعتمدت المنهج التالي بكتابة هذا الكتاب:
ü
اقتصرتُ على المعلومات المفيدة ضمن مجال بحثنا وهو (توسعة
المسعى بين الصفا والمروة ... حكمُها وكشف الخداع فيها) وما يتعلَّق به، ولم أذكر أمثال:
قصة السيدة هاجر، ومعنى كلمتي الصفا والمروة في اللغة ......إلخ.
ü
احتججتُ بالأحاديث الصحيحة فقط، ولكني لم أتوسع بتخريج
الأحاديث، فما كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به، وما كان في كتابٍ يخرج
الأحاديث بتوسع اكتفيت به أيضاً مثل مسند أحمد وصحيح ابن حبان طبع مؤسسة الرسالة،
ولا مانع من إيراد حديث حسنٍ ونحوه في غير موضع الاحتجاج.
ü
لم أُثقل الكتاب بالحواشي ما استطعت، فعزوُ الآية
بجانبها، وعزو النقل لصحيفةٍ في كتابٍ بجانبه.
ü
حاولت أن يخلو الكتاب من الأخطاء المطبعية، فأرجو اعتماد
تشكيل الكلمات.
ü
بعض المعاني يمكن التعبيرُ عنها بكلمات رصينة بليغة
فصيحة ويمكن التعبير عنها بكلمات يكون سَبكُها أقربَ إلى العامي منه إلى الفصيح،
فأنا أختار في هذا الكتاب الأسلوبَ الثاني مراعاةً لعموم الناس، لأنّ موضوع الكتاب
يَمَسّ جميع الحجاج والمعتمرين والمسلمين. ولذلك أيضاً اعتمدتُ في وضع علامات
الترقيم [الفاصلة والفاصلة المنقوطة والنقطة] على فهم المعنى دون مراعاة القواعد
الإملائية بالضرورة.
وأسأله تعالى
أن يهدي قادة المسلمين ومشايخهم وسائر المسلمين لتعظيم شعائر الله، والوقوف عند
حدوده، وتحريم ما حرمه الله ورسوله r، وإباحة ما أباحه الله ورسوله r، وردّ المشتبهات إلى أئمة الدين الفقهاء المجتهدين
الصالحين y.
طالب
الحديث والهداية
أسامة
بديع سعيدان
1/8/1429 هـ
4/8/2008
م
********************
الفصل
الأول: موقفنا من شعائر الله U
قال الله U:
]إن
الصفا والمروة من شعائر الله[ [البقرة158] قال الزَّمَخْشَرِي في الكشّاف2/94: (الشعائر: جمع شَعيرة، وهي اسمُ ما أُشعِر، أي: جُعل شِعاراً وعَلَماً للنُّسك مِن مواقف الحج). وقال ابن حَجَر في
مقدمة الفتح1/135: (شعائر الله: جمع شعيرة، أي: علامة، ومنه: المشعَر
الحرام ومشاعر الحج).
إنّ الصفا والمروة مِن شعائر الله، والزيادةُ في شعائر
الله زيادةٌ في دين الله([3])، فيجب أن نحافظ على شعائر الله ونعظّمها، ولا يجوز
أبداً تغيير شعيرة من شعائر الله سواء بالزيادة أم النقصان أم التحويل
أم التحريف، وهذا ليس مقتصراً على شعائرِ وأعلامِ دين الله فقط، بل إنّ جميع
الدول والشعوب ترفض أيَّ تغيير أو تبديل في عَلَم بلادها، فلو قلتَ لأيّ
دولة: سنغير أو نزيد أو ننقص في لون أو خط أو شكل عَلَمك لقام مواطنو هذه الدولة
ضدك واعتبروك خائناً لهم مستهزئاً بهم تَمَسّ كرامتهم، فالواجب على كل مؤمن أن
يعظّم ويحافظ على شعائر وأعلام دين الله أكثرَ مِن تعظيمه ومحافظته على شعائر وأعلام
بلاده([4]).
ولقد علّمنا
الله تعالى في القرآن الكريم كيفية التعامل مع شعائر الله بطريقين:
الأول:
التعظيم: قال الله
تعالى: ]ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب[ [الحج32] وأمّا مَن ضَعُف الإيمان والتقوى في قلبه فلن يعظّم
شعائر الله، وسيَزيد ويُنقص ويُغير في شعائر الله، ويجب على جميع المسلمين
تداركُ هذا الاستخفاف بشعائر الله ومنها المسعى، فجميع المسلمين يحبون خدمة المسجد
الحرام، وتهييء أسباب الراحة والأمان والخدمة لضيوف الرحمن، ولكنْ لا يرضى
المسلمون المعظِّمون لشعائر الله أن يُجعل جزءٌ مِن مزدلفة ملحقاً بِمِنى،
ولا يَرضَون أن يُوسّع مكان رمي الجمرات ويُطمس تحديد المكان الأصلي للجمرات،
ولا يَرضَون أن يُبنى مسعىً جديدٌ لأداء عبادة السعي فيه.
وإني أحث
المسلمين على زيادة تعظيم مكة وحرمات الله وإلاّ أهلكَنا الله مصداقاً لقول
النبي r: "إنَّ هذه الأمَّة لا تَزال بخيرٍ ما
عَظَّمُوا هذه الحُرْمة [أي: مكة([5])] حَقَّ تعظيمها، فإذا ضَيَّعُوا ذلك هَلَكُوا " ([6])
الثاني:
عدم الإحلال: قال الله
تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائر الله .... [ [المائدة2] قال أبو السُّعود في تفسيره عند هذه الآية: (لما بيّن حُرمةَ إحلال
الإحرام الذي هو من شعائر الحج عقّب ذلك ببيان حرمة إحلال سائر الشعائر، وإضافتُها
إلى الله U لتشريفها وتهويلِ الخَطْب في
إحلالها، وهي جمع شَعيرةٍ، وهي اسمٌ لِما أُشعِر، أي جُعل شِعاراً وعَلَماً
للنُّسُك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطافِ والمسعى......... وإحلالُها أن
يُتهاوَن بِحُرمتها).
********************
الفصل الثاني: بيان إجماع
الأمة أنه لا يصح السعي خارج المسعى المعروف
المبحث
الأول: دليل أن السعي ركن وواجب في الحج والعمرة، وأن السعي محدد ومحصور، وأنه غير قابل للزيادة أو التحويل مهما كان السبب أو الضرورة:
1. قال الله
تعالى: ]إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت
أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم[ [البقرة158].
2. سَعَى رسول
الله r فِي حَجِّه وعمرته بين الصفا والمروة وقال:
"اسْعَوْا، فإنَّ الله كَتَبَ عليكم السعي" ([7])
3. قالت حبيبة [بضم
الحاء وفتحها] بنت أبي تَجْراة إحدى نساء بني عبد الدار: (رأيتُ رسول الله r يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم،
وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره وهو يقول:
" اسعَوا، فإنّ الله كتب عليكم السعي "، وفي روايةٍ بلفظ: " كُتِبَ عليكم السعي
فاسعَوا " ([8])
4. قالت السيدة
عائشة t: "ما أَتَمَّ الله حجَّ امرئٍ ولا عمرته ما لم
يَطُفْ بين الصفا والمروة " ([9]) وفي روايةٍ أنها أقسمتْ فقالت: " فلَعَمري ما
أتمّ الله حج مَن لم يطف بين الصفا والمروة " ([10])، قال الإمام الطّحاوي في مشكِل الآثار 8/432: (وذلك مما لا يجوز أن يكون قالته رأياً، لأنّ مِثله لا يقال بالرأي،
ولكنها قالته توقيفاً، والتوقيف لا يكون في مِثل هذا إلاّ مِن رسول الله r، واللهَ نسأله التوفيق).
5. إنّ النبي r أمر بالسعي كما أمر بالطواف، وأمرُه على الوجوب إلاّ إن
صرفه صارفٌ، ولا صارفَ هنا، وما ثبت وجوبه تعيّن فعله، ولم يجز أن يقام غيره
مُقامه إلاّ بدليل.
6. إنّ السعي نسكٌ
يختص بمكانٍ، يُفعل في الحج والعمرة، فكان لا بُدَّ منه كالطواف بالبيت، وذلك لأنّ
تكراره في النُّسكَين دليل على قوته، واختصاصُه بمكانٍ دليلٌ على وجوبِ قصد ذلك
الموضع.
7. الأمكنة
المحدَّدة من قِبل الشارع لنوع مِن أنواع العبادات لا تجوز الزيادةُ فيها ولا النقص
إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة.
8. إنّ الأمكنة
المحدَّدة شرعاً لنوع من أنواع العبادات ليست محلاًّ للقياس، لأنه لا قياس ولا
اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديدَ المكان المعيّن للعبادة، ولأنّ تخصيص تلك
الأماكن بتلك العبادات دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى حتى
يتحقق المناط بوجودها في فرعٍ آخرَ لكي يُلحق بالقياس، فالتعبديُّ المحض ليس من
موارد القياس.
9. إنّ فعل النبي r الوارد لبيان إجمال نصٍّ من القرآن العظيم له حكم ذلك
النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله، فإنْ دلَّتْ آية من القرآن العظيم على وجوب
حكم من الأحكام وأوضح النبي r المراد منها بفعله فإنّ ذلك الفعل يكون واجباً بعينه
وجوبَ المعنى الذي دلّت عليه الآية، فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر، ومن الأمثلة
قوله r: " لِتأخذوا عني مناسكَكم " ([11]) فإنه يدل على أن أفعاله في الحج والعمرة بيانٌ لإجمال
آيات الحج والعمرة، فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلاّ لدليل يجب الرجوع
إليه من كتاب أو سنة.
10. لقد صرّح الله
تعالى بقوله: ]إنّ الصفا والمروة من شعائر الله[ [البقرة158] بأنّ المكان الذي عَلَمُه "الصفا" والمكان الذي عَلَمُه
"المروة" من شعائر الله، ومعلومٌ أنّ الصفا والمروة كلاهما عَلَمٌ
لمكانٍ معيَّن، وهو عَلَم شخصٍ لا عَلَم جنس، بلا نزاع ولا خلاف بين أهل العربية
أنّ العَلَم يُعيّن مُسمّاه مطلقاً، أي: لا يَدخل في مُسمّاه شيءٌ آخرُ غيرُ
ذلك الشيء، عاقلاً كان أو غيرَ عاقل، فإذاً لا يصح أن نجعل ما يوازي المسعى مكاناً
ثانياً للسعي، ولو سمّيناه مسعى جديداً أو توسعة المسعى، فالتسمية لا تُغيِّر
واقعَ أنّ المسعى الجديد لا يَدخل ضمن أمر الله ورسوله r بالسعي بين الصفا والمروة.
11. إنّ العدول عن
المسعى النبوي إلى المسعى الجديد المبني بموازاته يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو
سنة رسوله r، ويحتاج إلى معرفة مَن أُخِذ عنه هذا المسعى الجديد،
لأنّ النبي r إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحدَه صلى الله عليه
وسلم، ولم يأذن لنا في أخذها عن أحدٍ غيره كائناً مَن كان.
12. إنّ زيادة مكان
نسكٍ على ما كان عليه المسلمون من عهد النبي r إلى اليوم تحتاج لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو
سنة رسوله r مع التحرّي والتثبت والنظر في العواقب، وكلُّ هذا غير
موجود.
المبحث
الثاني: إجماع الأمة على أن موضع السعي ما بين الصفا وبين المروة حصراً وأنه محدّد
المساحة وأنه غير قابل للزيادة عليه:
لقد أجمعت
الأمة على أن مكان السعي هو ما بين الصفا والمروة حصراً، ولا تجوز الزيادة عليه
ولا تغيير موضعه مهما كان العذر، وسأنقل كلام العلماء من جميع العصور ومن
جميع المذاهب لإثبات أنّ الإجماع حاصل في جميع الأزمنة على أنّ السعي لا يصح إلاّ
في المكان المخصص والمعروف لجميع المسلمين، وسأجعل كلامي في ثلاثة مطالب: المطلب الأول: كلام أئمة الدين وكبار المؤرخين، المطلب الثاني: لم يُنقل عن أيّ عالم أنه أجاز توسعة المسعى ولا حتى
عن أيّ مسلمٍ أنه سعى خارج المسعى رغمَ اضطرارهم، المطلب الثالث: كلام المتأخرين والمعاصرين.
المطلب الأول: كلام أئمة الدين وكبار المؤرخين:
1. قال الإمام
مُلاّ علي قاري في مرقاة المفاتيح 5/501: (والمسعى هو
المكان المعروف اليوم لإجماع السلف والخلف عليه كابراً عن كابر).
2. قال الإمام
النووي في المجموع 8/76: (قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير
موضع السعي، فلو مرَّ وراءَ موضع السعي في زقاق العطّارين أو غيره لم يصح سعيه؛
لأنّ السعي مختص بمكانٍ فلا يجوز فِعلُه في غيره).
3. قال الإمام
الرَّملي في نهاية المحتاج 10/359: (.........
القصدُ قطع المسافة، ويُشترط قطع المسافة بين الصفا والمروة كلَّ مرةٍ، ولا بُدَّ
أن يكون قطع ما بينهما مِن بطن الوادي وهو المسعى المعروف الآن......... ).
4. قال الإمام الخطيب
الشُّربيني في مغني المحتاج 1/493: (فلو عَدَل
عن موضع السعي إلى طريقٍ آخرَ في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا لم
تحسب له تلك المرة).
5. قال الإمام الكاساني
في بدائع الصنائع 4/403 عند الكلام على أركان السعي: (وأمَّا رُكنه فكينونته
بين الصفا والمروة ............. فسُعِيَ به محمولاً أو سَعَى راكباً لِحُصوله
كائناً بين الصفا والمروة).
ü
قال العلامة قطب الدين الحنفي في كتاب الإعلام ص138 في معرِض رده على إشكال أن يكون المسعى الذي يَسعى فيه الناس غيرَ المسعى
الذي سعى فيه النبي r: (إنّ السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي
أوجبها الله تعالى علينا في ذلك المحل المخصوص، ولا يجوز لنا العدول عنه،
ولا تعتبر هذه العبادة إلاّ في هذا المكان المخصوص الذي سعى فيه رسول الله r .............. وإلاّ [أي: وإلاّ لو سعى الناسُ في
غير المسعى الذي سعى فيه النبي r] لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين رضوان الله
عليهم أجمعين مع توفرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله
عنهما والإمام مالك بن أنس رضي الله عنه موجودين يومئذ، وقد أقروا ذلك، وسكتوا،
وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في مرتبة الاجتهاد كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل
وبقية المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، فكان إجماعاً منهم رضي الله عنهم على
صحة السعي من غير نكيرٍ نُقل عنهم ...........).
6. قال الإمام الحَطّاب
المالكي في مواهب الجليل 8/35: ( إنَّ مَن
تَرَكَ مِن السَّعي شيئاً ولو ذراعاً يَرجِعُ له مِن بلده، ومنها كونُه بين الصفا
والمروة، فلو سَعَى في غير ذلك المحل بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا ودخل
من المسجد لم يصح سعيه، والواجب فيه السعي بين الصفا والمروة).
7. وأخيراً أقول:
عجباً من تحوّل منهج القائمين على شؤون الحرمين، فقد كانوا يأخذون بقول ابن تيمية
ولو خالف قولَ جميع العلماء، أمّا الآن فلا يأخذون بقول ابن تيمية ولو وافق
قولَ جميع العلماء، فقد قال ابنُ تيمية في شرح العمدة 3/599: (لو سعى في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه)،
وقال في معرِض تَعداده شروطَ صحة السعي 3/638: (استكمالُ سبعة أشواط تامة، فلو ترك خطوةً مِن شوطٍ لم يجزه)، بل إنّ ابن
تيمية يستتيب مَن يسعى في أي مكان في العالم خارج ما بين الصفا والمروة على وجه
العبادة، فإنْ تاب وإلاّ قُتِل، قال في مجموع الفتاوى 11/632: (لو سُئِلَ العالِمُ عمّن يَعدو بين جبلين هل يباح له ذلك؟ قال:
نعم. فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إنّ فِعله
على هذا الوجه حرام منكر يستتاب فاعلُه، فإنْ تاب وإلاّ قتل).
المطلب الثاني: لم يُنقَل عن أي عالم أنه أجاز توسعة
المسعى ولا حتى عن أيِّ مسلمٍ أنه سعى خارج المسعى رغمَ اضطرارهم:
سأتكلم على هذا
المطلب من خلال أمرين: الأمر الأول: أنه لم يُنقل عن أي عالم ولو شذوذاً
ومهما كانت نِحلته أنه أجاز توسعة المسعى ولو قليلاً على الرغم من موت واختناق
البعض بسبب ضيق المسعى في أزمانهم مع أنه نُقل عن بعض العلماء أنّ الخروج
اليسير لا يضرُّ بخلاف الخروج الكثير([12]). الأمر الثاني: لم ينقل عن أيّ مسلم مهما كانت نحلته أنه سعى
خارج المسعى المعروف.
وقبل بيان هذين
الأمرين لا بد من توضيح الفرق بين الأمرين لعامة الناس، فالأمر الأول يتكلم عن
حرمة توسعة المسعى سواء كانت هذه التوسعة قليلة أم كثيرة، فهذا الأمر أجمعت الأمة
عليه بلا أدنى خلاف، وأمّا الأمر الثاني فيتكلم عن سير الساعي في المسعى، وحكم
سعيه لو خرج أثناء سيره قليلاً عن المسعى، وهذا الأمر حصل فيه الخلاف، وسأضرب
مثالاً من بحث الصلاة يَعرفه الجميع لتوضيح فكرة الفرق بين الأمرين، فالأمر الأول
مِثلُ إجماع الأمة على أنّ الكعبة هي القِبلة الوحيدة ولا يجوز توسعتها أو بناء
كعبة غيرها كقِبلةٍ جديدة أو اتخاذُ أيِّ مكان ثانٍ كقبلة، وأمّا الأمر الثاني
فمِثلُ أنه لو صلَّى المصلي فهل يَلزمه الاجتهاد لإصابة عين الكعبة أم يكفيه
التوجه لجهتها ولو أصاب غيرَ الكعبة؟ وهذا الأمر فيه خلاف، والآن سأعود لتفصيل
الأمرين:
الأمر الأول: أنه لم يُنقل عن أيّ عالم جوازُ توسعة المسعى مهما كان
مذهبه الفقهي ومهما كان مذهبه الاعتقادي ومهما كان فِسقُه، على الرغم من أنّ فكرة
توسيع المسعى هي مَخرج أيّ عاقل عندما يَضيق عليه الطريق ويكون طرفاه غيرَ مسدودين
بجدار، وهذه الفكرة كانت تخطر على بال المسلمين، بل إنّ هذه الفكرة كانت أول
وأهمَّ فكرة بُحثت أثناء توسعات الحرم وبخاصة منذ ستين سنة حتى الآن، وعلماً أنّ
الحاجة الماسة والضرورة الملحة للتخلص مِن الزحام المؤذي بل المميت للمسعى كانت
متكررة في جميع العصور كما سأبينه في الردّ على شبهة "الضرورات تبيح
المحظورات"، فهل يُريد مبيحو التوسعة إجماعاً على بطلان عملهم أقوى من هذا
الإجماع؟
الأمر الثاني: لم يُنقل عن أيّ مسلم مهما كانت نِحلته أو فِسقه أنه
سعى خارج المسعى المعروف، ولا ينافي هذا الكلام ما نُقل عن الإمام الشافعي
والدارمي أنّ (الساعي إذا خرج خروجاً يسيراً عن حدِّ المسعى عرضاً لا يضر، وأمّا
الخروج عن المسعى خروجاً كثيراً فإنه لا يصح معه السعي، ويبقى مُحرِماً حتى يموت
إلاّ أن يرجع ويسعى في المسعى الصحيح)، وللعلماء في شرح هذا القول أربعةُ مذاهب:
ü
الأول: أنّ هذا الكلام يجب أن يؤوّل لمخالفته لجميع
النقول عن جميع العلماء من الشافعية وغيرهم حتى عن الشافعي نفسه، ويؤوّل بأنّ
المراد الخروج اليسير عن العَقْد المشرِف على الصفا والمروة([13]) لا الخروج ولو يسيراً عن المسعى، لأنّ عرض العَقْد
أصغرُ مِن عرض المسعى بقليل([14])، كما كان مشاهداً حتى إزالة العَقْد في التوسعة
السعودية.
ü
الثاني: أنّ أرض المسعى هي أرض جبلية فلا تخلو مِن
التواءات وصخور مما يَجعل الخط بين الصفا والمروة ليس مستقيماً، وهذا أمر لا يمكن
ضبطه بدقة إلاّ أن يقال: إنّ أرض المسعى إذا سُوِّيت وسار الساعي بخطٍّ مستقيم ما
بين طرف الصفا وطرف المروة فإنه يكون قد خرج يسيراً في بعض الأماكن وهذا
لا يضر.
ü
الثالث: أنّ ما بين الصفا والمروة يتسع قليلاً أحياناً
وخاصة في الوادي ويضيق قليلاً أحياناً، فلو أنّ الساعي سعى بخطٍّ مستقيم فإنه
سيَخرج عن المسعى يسيراً في بعض الأماكن الضيقة، فهذا الخروج اليسير لا يضر.
ü
الرابع: أنّ النبي r قد حدّد لنا عرض المسعى بالبينية بين الصفا والمروة،
ولم يحدّده بعلامات دقيقة، كما أنه لم يَرِد أيُّ حديث ينص على عرض المسعى،
وهذا يدل على أنّ الخروج اليسير عن الحد الذي حدده المسلمون لا يضر بخلاف
الخروج الكثير فإنه حينئذ يكون خارجاً عن البينية بين الصفا والمروة.
وأيًّا ما يكون
فإنّ هذا النقل عن الإمام الشافعي يُفيدنا في بحثنا بأنْ يبين لنا مدى دقة تحديد
عرض المسعى في كل نقطة، لأننا بالتحديد نستطيع أن نتبين الخروج اليسير من الخروج
الكثير، فلو كانت أرض المسعى غيرَ محددة بدقة لما استطعنا تمييز الخروج اليسير من
الخروج الكثير.
وعلى أيّ حال
فإنّ هذا القول للإمام الشافعي والدارمي لا يصح أن يَحتج به مبيحو التوسعة، لأنّ
التوسعة خرجتْ عن حدّ المسعى خروجاً كبيراً جداً جداً، حتى إنها بلغتْ أكثر من
مِثل مساحة المسعى كاملاً، وإنّ الساعي في المسعى الجديد قد سعى خارج المسعى
بالكامل، لا أنه خرج خروجاً يسيراً.
وقبل أن أسرد
كلام الأئمة لا بدّ من التنبيه إلى أنّ بناء المسعى في عهد الملك فهد رحمه الله قد
أخذتْ بقول الإمام الشافعي فجعلت المسعى مستقيماً من أوله إلى آخره بحسب أعرض نقطة
في المسعى([15])، لذلك فإنّ بعض العلماء([16]) قد نصح الساعين بالابتعاد عن الحائط الشرقي([17]) مِن المسعى مسافة مترين، لأنّ الساعي بملاصقة الحائط
الشرقي مِن داخل المسعى يكون قد خرج في بعض الأماكن خروجاً يسيراً، وهذا
لا يصح عند جميع الأئمة ما عدا الإمام الشافعي والدارمي.
والآن سأسرد
بعض النقول التي تبين الكلام الذي ذكرته في هذه المقدمة، ولن أشرح النقول اكتفاءً
بشرحي في هذه المقدمة لجميع النقول بشكل مجمل:
1. قال الإمام
النووي في المجموع 8/76: (قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئاً يسيراً
أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز، وكذا قال
الدارمي: إن التوى في السعي يسيراً جاز، وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا،
والله أعلم).
2. قال الرّملي في
نهاية المحتاج 3/283: (ويُشترط قطع المسافة بين الصفا والمروة كلَّ مرة، ولا
بدّ أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن، وإن كان في
كلام الأزرقي ما يوهم خلافه فقد أجمع العلماء وغيرهم مِن زمن الأزرقي إلى الآن على
ذلك، ولم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى، وسكوتهم
عنه لعدم الاحتياج إليه، فإنّ الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة
كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً لم يضر كما نص عليه الشافعي).
3. في حواشي
الشَّرواني 4/98: (وقوله [أي: صاحب النهاية] (ولو التوى... إلخ) إن كان
مع الخروج عن عرض المسعى فغريب، بل كلامهم مصرِّح بخلافه، وإلاّ فلا وجه للتقييد
باليسير، وبالجملة فهذا النص محتاج إلى التأويل والمراجعة ............. قال في
العُباب: ويجب أن يسعى في بطن الوادي ولو التوى فيه يسيراً لم يضر، قال شارحه:
بخلافه كثيراً بحيث لم يخرج عن سَمْت العَقْد المشرف على المروة، إذ هو مقارب لعرض
المسعى مما بين الميلين الذي ذكر الفاسي أنه عرضه، ثم ما ذكره هو في المجموع حيث
قال: قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو مرّ وراء موضعه
في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه، لأنّ السعي مختص به فلا يجوز فعله في غيره
كالطواف، إلى أن قال: ولذا قال الدارمي: إن التوى في موضع سعيه يسيراً جاز، وإن
دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا، انتهى، وبه يُعلم أن قول العُباب: ولو
التوى فيه يسيراً، المراد باليسير فيه ما لا يَخرج عنه([18])، فتأمله، انتهى كلام المحشي، هذا ولك أن تقول: الظاهر
أنّ التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على التقريب، إذ لا نص فيه يُحفظ عن
السنة، فلا يضر الالتواء اليسير لذلك بخلاف الكثير فإنه يخرج عن تقدير العرض
ولو على التقريب، فليتأمل، بصري، وما ذكره عن شرح العباب اعتمده الونائي
فقال: لكن لو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً بحيث يَخرج عن سمت العَقْد المشرف
على المروة لم يضر، وذكر الفارسي أنّ عرض المسعى ما بين الميلين فإن دخل
المسجد أو مرّ عند العطارين فلا يصح).
المطلب الثالث: كلام المتأخرين والمعاصرين:
أجمع جميع
المتأخرين والمعاصرين حتى عام 1426هـ [أي: قبل
ثلاث سنوات فقط]([19]) على أنّ مكان السعي هو ما بين الصفا والمروة
حصراً، ولا تجوز الزيادة عليه ولا تغيير موضعه مهما كان العذر، وأنّ السعي لا يصح
إلاّ في المكان المخصص والمعروف لجميع الناس وهو المسعى، وإليك بعضَ النصوص في
هذا:
1. في عام 1374هـ [أي قبل 55 سنة] أمر الملك رحمه الله بهدم بعض دُور آل الشَّيْبِي
والأَغَوات المحيطة بالصفا، فأمر وزير الداخلية بتشكيل لجنة من ثلاثة علماء منهم العلامة
الشيخ علوي المالكي رحمه الله تكون مَهمتها تحديدَ ما يَدخل بالمسعى من هذه
الدور مما يَخرج عنه، وبعد المعاينة أصدرت بيانها، ثم رفعته وزارةُ الداخلية لمفتي
عام المملكة ورئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فأصدر بياناً وفيه:
(.......فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجالٍ من الثقات رأيت هذا القرار
صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه)، ثم رَفع هذا البيان للديوان الملكي بتاريخ 23/10/1374هـ، ولمراجعة البيانات والرسائل كاملة انظر "فتاوى
ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ" 5/132
2. في أول عام 1378هـ أي قبل أكثر من 51 سنة قام مكتب
مشروع توسعة المسجد الحرام ببناء مصعدين [أي: درج ومزلق إسمنتي] عند الصفا والمروة
لتسهيل صعود الساعين عليهما، فثارت ثائرة أهل مكة لأنّ بعض الساعين من الغرباء لن
ينتبه لِما يَدخل مِن هذه المصاعد في المسعى مما هو خارج عن المسعى، فربما كان
بعضُ سعيه خارجاً عن المسعى وبذلك لن يصح سعيه، فأمرتْ وزارة الداخلية بتشكيل لجنة
مؤلفة من ستة علماء وكان منهم العلامة السيد علوي مالكي رحمه الله وأنْ يَختار
محمد بن لادن عالِمَين لكونه مديرَ الإنشاءات الحكومية، وبعد معاينةٍ ودراسةٍ لمدة
12 يوماً مع الرجوع للخرائط والاختصاصيين وأهل مكة أصدروا
بياناً بالإجماع، وقد انتقيتُ منه العبارات التي هي موضع الشاهد: (اتضح أنّ المصعد
الشرقي المواجه للمروة هو مصعد غير شرعي([20])............ فلا يتأتى بذلك استيعاب ما بين الصفا
والمروة المطلوب شرعًا. وبناء على ذلك فإنّ اللجنة رأت إزالة ذلك المصعد،
والاكتفاء بالمصعد الثاني المبني في موضع المصعد القديم............ كما أنّ
المصعد والنزول من ناحيته يحصل به الاستيعاب المطلوب شرعًا............ فقد رأت
اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا............
وعليه فلا مانع من توسعة المصعد المذكور في حدود العرض المذكور............
ولِيحصل الاستيعاب المطلوب شرعًا. وبالنظر لكون الدرج الموجود حاليًا هو 14 درجة، فقد رأت اللجنة أن تستبدل الستة الدرجات السفلى منها بمزلقان يكون
انحداره نسبيًا، حتى يتمكن الساعي من الوصول إلى نهايتها باعتباره من أرض المسعى،
وليتحقق بذلك الاستيعاب المطلوب شرعًا، ثم يكون ابتداء الدرج فوق المزلقان
المذكور، ويكون مِن ثَمّ ابتداء المسعى من ناحية الصفا............كما وقفت اللجنة
أيضًا على المروة، فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى،
وبعد تطبيق الذرع للمسافة ............ تنتهي عند مراجعة موضع العَقْد القديم من
المروة، وهو الموضع الذي أقيم عليه الجسر في البناية الجديدة، وبذلك يكون المدرج
الذي أنشئ أمام الجسر والذي يبلغ عدده ستة عشرة درجة جميعه واقعاً في أرض المسعى.
وقد يجهل كثير من الناس ضرورة الصعود إلى نهاية الست عشرة درجة المذكورة ويعودون
من أسفل الدرج كما هو مشاهد من حال كثير من الناس فلا يتم بذلك سعيهم، لذلك رأت
اللجنة ضرورة إزالة الدُّرَج المذكورة. وبعد تداول الرأي مع المهندسين والاطلاع
على الخريطة القديمة تقرر استبدال الدُّرَج المذكورة بمزلقان يتحدر نسبيًا ابتداء
من واجهة الجسر المذكور إلى النقطة التي عيّنها المهندسون المختصون بمسافة يبلغ
طولها 31 مترًا، وبذلك يتحتم على الساعين الوصول إلى الحد المطلوب
شرعًا وهو مكان العَقْد القديم الذي وضع في مكانه الجسر الجديد باعتبار المزلقان
المذكور من أرض المسعى، ثم تكون الثلاث الدُّرَج التي تحت الجسر هي مبدأ
الصعود للمروة، وتكون هذه النقطة هي نهاية السعي من جهة المروة).
3. عُرِضتْ مسألة السعي في الطابق الثاني حلاًّ لمشكلة الزحام في المسعى على
هيئة كبار العلماء سنة 1393هـ أي قبل 36سنة، فاجتمع للمسألة أشهر علماء المملكة وعددهم 16 عالماً، وبعد
مدارسات طويلة استمرت ثمانية أشهر مع دراسات ميدانية من قبل العلماء والمهندسين
ومراجعة كلّ ما كُتِب في كُتُب العلماء عن المسعى وبعد توكيل اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث مطوّل حول الموضوع وجمع كلام العلماء في
المسألة، بعد كلّ هذا أصدروا البيان رقم 21 بتاريخ 12/11/1393هـ وملخصه: أجاز أغلبُ أعضاء الهيئة
السعي فوق سطح المسعى وتوقف عن الإفتاء ستة علماء ومنعه عالم واحد، وقد أجمع
الجميع بلا خلاف أنه لا يجوز توسعة عرض المسعى.
ومَن أراد قراءة البيان مطولاً مع الأدلة وشرحها وحجج مَن قال بمنع السعي في
الطابق الثاني فليرجع لكتاب البحوث العلمية لهيئة كبار العلماء والذي تنشره رئاسة
إدارة البحوث العلمية والإفتاء 1/24، ومَن أراد قراءة البحث المعدّ مِن قِبل اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء فليرجع لمجلة البحوث الإسلامية، العدد الأول لعام 1395هـ ص179
4. قال الشَّنقيطي المتوفى سنة 1393هـ في أضواء البيان 4/481: (اعلم أنه لا يجوز السعي في غير
موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى، حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى
لم يصح سعيه، وهذا لا ينبغي أن يُختلف فيه).
5. قالوا في الموسوعة الفقهية الكويتية 17/40 والتي استغرق العمل بها من عام 1404هـ إلى عام 1427هـ: (هناك
أماكن وَقَّتَها الشّارعُ، أي: حَدَّدَها لأداء أركان الحج، لا تصح في غيرها،
فالوقوفُ بعرفة مكانُه أرضُ عرفة، والطواف بالكعبة مكانُه حولَ الكعبة، والسعي
مكانه المسافة بين الصفا والمروة) وقالوا في 25/14: (........ سَبْعَةُ أشواطٍ
يَقْطَعُها بين الصفا والمروة، لفعل النبي r ولإجماع الأمة
سَلَفًا فَخَلَفًا على السعي كذلك).
ملحوظة:
أجد لزاماً علي قبل
أن أنتقل إلى الفصل التالي أن أذكُرَ أنّ أول خلاف حصل في الأمة حول توسعة المسعى
وُجِدَ بعد أن أمرت الحكومة السعودية بتوسعة عرض المسعى ورفضتْ فكرة زيادة عدد
الطوابق دون الخروج عن عرض المسعى، فقبْل اعتماد مخطط توسيع المسعى الحالي طَلَبَ
أميرُ منطقة مكة المكرمة بتاريخ 6/8/1426هـ من الأمانة العامة لهيئة كبار
العلماء دراسة حكم توسعة المسعى من الناحية الشرعية، وبعد الدراسة لمدة أكثر من
ستة أشهر، وبتاريخ 22/2/1427هـ أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قراراً
جاء فيه: (.........وقد استعرض المجلس ما سبق أن صدر منه ........... واطلع على
البحوث المعدّة حول مشعر المسعى من الناحية الشرعية والتاريخية......... واطلع
كذلك على الفتاوى الصادرة ........... بناء على قرارات اللجان المشكلة من عدد من
العلماء........... مما هو منصوص عليه في كتب أهل العلم من محدثين وفقهاء
ومؤرخين........... وبعد الدراسة والمناقشة والتأمل رأى المجلس بالأكثرية([21]) أن العمارة الحالية للمسعى شاملة لجميع
أرضه، ومِن ثَمَّ فإنه لا يجوز توسعتها، ويمكن عند الحاجة حلُّ المشكلة رأسياً
بإضافة بناءٍ فوق المسعى).
********************
الفصل
الثالث: اهتمام أئمة المسلمين بضبط وتحديد عرض المسعى
اهتم أئمة المسلمين بضبط حدود المسعى مِن
كلّ طرف كما اهتموا بضبط حدود عرفات ومزدلفة ومنى وحرم مكة المكرمة، لذلك فإنّ طول
المسعى وطول مكان الرَّمَل وعرض المسعى عند الصفا وعند المروة وعند مكان الرمل
كلُّ هذه محددة بدقة عالية طولاً وعرضاً:
ü
أمّا في عصر الصحابة فقد حُدِّدتْ بحسب البيوت القائمة
في المكان والمعروفة للجميع، وكان التحديد دقيقاً لدرجة أنّ التحديد يكون بباب دار
فلان أو الخَوخة أو المجلس أو نحو ذلك.
ü
وأمّا في عهد التابعين حتى سنة 167 هـ فقد حُدِّد طول وعرض المسعى والرَّمَل بعلاماتٍ وشواخصَ مع إبقاء البيوت
والدُّور كما هي، وذلك ليتضح بدقةٍ مكانُ السعي للتابعين، لأنّ بعض البيوت كانت
مبنية ضمن منطقة السعي وبعضها كان بابه على حد المسعى من جهة الغرب، أي: جهة
الكعبة، وبعضها كان بابه على حد المسعى من جهة الشرق وبعضها يقع قسم من الدار في
المسعى وقسم خارجها، فكل هذه التقاسيم كان يعرفها الصحابة معرفة دقيقة ومفصَّلة،
أمّا في عهد التابعين فاحتاج الأمر إلى زيادة بيان فوضعوا علامات وشواخص لتبيين
مكان السعي مع الإبقاء على الدور كما هي.
ü
وأمّا في سنة 167 هـ فأمر الخليفة المهدي بشراء كلِّ مبنى ضمن المسعى مع الإبقاء على
العلامات المحدِّدة لعرض المسعى، فأمّا البيوت الواقعة كاملةً ضمن المسعى فأُزيلت
بالكامل، وأمّا البيوت الواقع جزء منها ضمن المسعى وجزء خارجه من جهة الشرق فأُزيل
القسم الواقع ضمن المسعى وتُركت بقية الدار لأصحابها، وأمّا البيوت الواقعة على
حدود المسعى شرقاً فتُركت بالكامل لأصحابها لأنها بكاملها خارج المسعى، وأمّا
البيوت الواقعة على حدود مكان الرَّمَل غرباً فهدمت لتوسيع المسجد إلى هذه الحدود،
وهكذا أصبح المسعى واضحاً أكثرَ مِن ذي قبل، ولما جاء مؤرخو مكة كالأزرقي والفاكهي
قاسوا المسافة بين كل عَلَمَين، وحدّدوا مقاس المسعى طولاً وعرضاً في كل موضع بدقة
عالية حتى إنهم كانوا يقيسون بالأذرع فإذا زادت مسافة بسيطة قاسوها بالأصابع على
الرغم من أنّ المسافات طويلة جداً عن أن تقاس بهذه الدقة، ولكن لإدراكهم أنّ
المسعى يجب أن يكون محدّداً بدقة مثل الكعبة ومنى وعرفات وغيرها.
وسأسرد الآن
كلام الصحابة والتابعين والمؤرخين دون شرحِ كل عبارة، فقد قمتُ بتلخيص مجموع
كلامهم بما سبق وذكرته قبل قليل، وسأختار من النقول ما يشمل كل العصور منذ عصر
الصحابة وحتى ما قبل 53 سنة من الآن، وأمّا تحديد المسعى منذ 53 سنة وحتى يومنا هذا فسأذكره بالتفصيل في موضعه بعونه تعالى:
1. قال البخاري في
صحيحه تعليقاً 2/592: (وقال ابن عمر t: السعي مِن دار بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين) قال
الحافظ في الفتح 5/310: (وَصَلَه الفاكهي من طريق ابن جُرَيْجٍ أخبرني نافع قال: نزل ابن عمر من الصفا، حتى
إذا حاذى باب بني عَبَّاد سَعَى، حتى إذا انتهى إلى الزُّقَاق الذي يَسْلُك بين
دار بني أبي حسين ودار بنت قَرَظَة - ومن طريق عُبَيْد الله بن أبي يزيد قال -
رأيت ابن عمر يسعى من مجلس أبي عَبَّاد إلى زُقَاق ابن أبي حسين. قال سفيان: هو
بين هذين العَلَمَين. وروى ابن أبي شَيْبَةَ من طريق عثمان بن الأسود عن مجاهد
وعطاء قال: " رأيتهما يسعيان من خَوْخَة بني عَبَّاد إلى زُقَاق بني أبي
حسين، قال: فقلت لمجاهد، فقال: هذا بطن المسِيل الأَوَّل " ا.هـ.
والعَلَمَانِ اللذان أشار إليهما معروفان إلى الآن).
2. قالت صفية بنت
شيبة t: (كنت في خَوْخَة لي فرأيت النبيَّ r يسعى بين الصفا والمروة..........) ([22]).
3. روت صفية بنت
شيبة t عن جدتها بنت أبي تَجْرَاة قالت: (كانت لنا خلفه في
الجاهلية، قالت: اطلعتُ من كُوَّة بين الصفا والمروة، فأشرفتُ على النبي r، وإذا هو يسعى، وإذا هو يقول لأصحابه: "اسعَوا،
فإنّ الله كتب عليكم السعي")([23]).
4. قالت تَمْلِكُ
الشَّيْبِيّة t: (نظرتُ إلى رسول الله r وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة.......) ([24]).
5. قال ابن حبيب
في المنمَّق في أخبار قريش 1/97 عند ذكره لقصة
إسلام حمزة بن عبد المطلب: (مرّ أبو جهل برسول الله r وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه بعضَ ما يكره
من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يُكلِّمه رسولُ الله r، ومولاةٌ لعبد الله بن جُدعان فوقَ الصفا في مسكنٍ لها
تسمع ذلك.......).
6. قال الإمام
الأزرقي([25]) في أخبار مكة 2/330 وما بعدها: (ودخلتْ أيضا دارُ خيرة بنت سباع الخزاعية بلغ ثمنها ثلاثة
وأربعين ألف دينار دفعت إليها وكانت شارعة([26]) على المسعى فاشترى جميع ما كان بين المسعى والمسجد من
الدور فهدمها ووضع المسجد على ما هو عليه اليوم شارعاً على المسعى ............
إلى حَدِّه الذي يلي باب بني هاشم الذي عليه العلم الأخضر الذي يَسعى منه مَن أقبل
مِن المروة يريد الصفا، وموضع ذلك بيّن لمن تأمله ............ وكانت فيه منارة
شارعة على الوادي والمسعى............ إلى موضع المنارة اليوم ............ كان
بين جدار الكعبة اليماني وبين جدار المسجد الذي يلي الوادي والصفا تسعة وأربعون
ذراعاً ونصف ذراع ............ ومنها باب العباس بن عبد المطلب وهو الباب
الذي عند العلم الأخضر الذي يسعى منه من أقبل من المروة يريد الصفا............
مِن باب بني جمح إلى باب بني هاشم الذي عنده العلم الأخضر مقابل دار العباس بن عبد
المطلب: أربعمائة ذراع وأربعة أذرع مع جدريه يمر في بطن الحجر لاصقاً بجدر
الكعبة............ إلى الجدار الذي يلي
الوادي عند باب الصفا لاصقاً بوجه الكعبة ثلاثمائة ذراع وأربعة
أذرع............ واشتروا الدور وهدموها،
فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العايذي ............ فهدموا ما كان بين الصفا
والوادي من الدور............).
7. وقال في 3/263 وما بعدها: (ومِن حقِّ آل عايذ دارُ عبّاد بن جعفر ............ الشارعة
على المسعى، وكان بابها عند المنارة، ومن عند بابها كان يسعى مَن أقبل من الصفا
يريد المروة، فلما أن وسع المهدي المسجد الحرام في سنة سبع وستين ومائة، وأدخل
الوادي في المسجد الحرام أدخلت دار عباد بن جعفر هذه في الوادي، اشتريت منهم،
وصيرت بطن الوادي اليوم إلاّ ما لصق منها بالجبل جبل أبي قُبَيس([27])............ من الصيارفة إلى الصفا ............ الدار
التي عند الصفا يقال لها دار الخيزران، وفيها مسجد يصلى فيه، كان ذلك المسجد
بيتاً، كان يكون فيه النبي r يتوارى فيها من المشركين، ويجتمع هو وأصحابه فيها عند
الأرقم بن أبي الأرقم ............ وهي الدار التي عند اللبانين بفوهة خط الحزامية
شارعة في الوادي ............ وكانت مساكن بني عدي ما بين الصفا إلى الكعبة،
............ ولهم من الشق الأيسر حق آل أبي طرفة الهذليين الذي على رأس
كَدَاْ ([28])، فيه أراكة ناتئة شارعة على الطريق............ الداران
اللتان صارتا لمصعب بن الزبير دخلتا في دار العجلة، وفي المسجد الحرام
بعضها............ دار الوليد بن عتبة بين الصفا والمروة، وكان لها وجهان، وجه على
ما بين الصفا والمروة، ووجه على فجّ بين الدارين............ لهم دار عفيف التي في
السويقة إلى قُعَيْقِعان إلى ما جاز سيل قُعَيْقِعان من دار............ هي الدار
التي كانت اتخذت موضآت............ دار العباس بن عبد المطلب التي في المسعى
............ ولبني عامر بن لؤي من شق وادي مكة اللاصق بجبل أبي قُبَيس في سوق
الليل ............ والزقاق الذي على الصفا يصعد منه إلى جبل أبي
قُبَيس............ يقال لها دار العروس مصعداً إلى قُعَيْقِعان ............
فَاضِحٌ بأصل جبل أبي قُبَيس ما أقبل على المسجد الحرام والمسعى).
8. قال الإمام
الفاكهي في أخبار مكة 3/498 وما بعدها: (
فيها فَتْحٌ فُتِحَ في دار عيسى بن علي يَرَى منه الكعبةَ مَن قام على المروة
............ ثم دار عباد بن جعفر عند العلم الأخضر ودار يحيى بن خالد بن برمك
تشرف على سوق الليل والوادي............ ودار موسى بن عيسى في أصلها الميل الأخضر
وهو علم المسعى............) وقال في 5/385 وما بعدها: (دار عباد بن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عائذ في أصل جبل
أبي قُبَيس............ إلى المنارة الشارعة على المسعى، وفيها كان ينزل سفيان
الثوري إذا قدم مكة ............ فدخلت هذه الدار دار ابن عباد في الوادي حين
اشتريت منهم، وما بقي منها لاصق بجبل أبي قُبَيس............ وهي الدار التي على
الصفا شارعة على الصفا والوادي............ وكانت للخطاب بن نفيل أيضاً دار بين
دار مخرمة بن نوفل التي صارت لعيسى بن علي، وبين دار الوليد بن عتبة بين الصفا
والمروة، كان لها وجهان: وجه على ما بين الصفا والمروة، ووجه على فَجٍّ بين
الدارين............).
9. ذكر السَّخَاوي
في الضوء اللامع 1/58 وقطب الدين الحنفي في الإعلام ص101 أن ابن الزَّمِن كان من خواصّ الملك الأشرف قايتباي المحمودي، فأراد بناء
رِباط على حدّ المسعى سنة 875هـ فتجاوز عمال
البناء على حد المسعى، فأوقفهم قاضي مكة، فتدخل ابنُ الزَّمِن ونفى تعديَه على
المسعى، فأحضر القاضي علماء مكة وقاسوا عرض المسعى من ركن المسجد إلى المحل الذي
وَضع فيه ابنُ الزَّمِن أساسه فكان 27 ذراعاً، فأرجعوا البناء لِيصفوَ عرضُ المسعى كما ذكره العلماء في كتبهم،
وكانت هذه الحادثة سبباً لعزل قاضي مكة من جميع وظائفه.
10.
قال الفاسي في شفاء الغرام 1/518: ( والعَلَمان المقابلان لهذين العلمين: أحدهما في دار عباد بن جعفر
............ والآخر في دار العباس ............) وراجع أيضاً 1/330 وما بعدها.
11.
قال الكردي في التاريخ القويم 2/77 وما بعدها: (ثم في عصرنا هذا في أواخر شهر جمادى الثانية سنة ست وسبعين
وثلاثمائة وألف هدمت هذه الدار [دار بنت قرظة] لتوسعة المسجد الحرام والشوارع، وكان
إلى هذه الدار ينتهي حد المسعى عرضاً من جهة الباب العباسي أحد أبواب المسجد
الحرام المقابل لهذه الدار ............. وكان في هذه الدار من جهة المسعى أحد
العلمين الأخضرين اللذان وضعا علامة لانتهاء الهرولة في السعي لمن جاء من الصفا،
فهدم هذا العلم تبعاً لهدم الدار، وإن شاء الله تعالى سيوضع علمان آخران في
موضعهما تماماً للغرض المذكور.........).
سأكتفي بهذه النقول خشية الإطالة، ولكن في ختام هذا الفصل الثالث أجد
لزاماً علي أن أرجو القارئ الكريم أن يعود للكتب المنقول عنها ويقرأها بالكامل،
فإنه سيَخرج بفوائد كثيرة لا أستطيع إثباتها في هذا المختصر؛ لأنها تحتاج لنقولٍ
طويلة حتى تُفهَم، ومن جملة هذه الفوائد أن يعلم أنّ تفريغ منطقة السعي من البيوت
بدأت منذ عصر الصحابة، وهكذا حتى أمر الخليفة المهدي بشراء كل بيت أو جزئه الداخل
في حد المسعى ووقفه لسعي المسلمين، ومع مرور العصور والأزمان فإنّ بعض الناس بدأ
يعتبر ما أمام بيته ملكاً له، وبعضهم فتح دكاناً مطلاً على المسعى وشيئاً فشيئاً
بدأ بوضع بضاعته أمام دكانه حتى صار الأمر كأنّ دكانه في المسعى، وبعضهم وضع
بضاعته أو عرض خدماته ضمن أرض المسعى دون أن يكون له أدنى ملكية فيما حول المسعى،
فكلُّ هذه التعديات على المسعى كانت بين رخوٍ وشدٍّ، فأحياناً يأتي أميرٌ لمكة أو
قاضٍ فيزيل تعدي البيوت أو الصناع والتجار وأحياناً تسيب الأمور، وبقي الأمر على
هذه الحال حتى عصرنا الحديث حيث أزيل كل مبنى ملاصق للمسعى أو قريب منه، كما
مُنع البيع في المسعى أو إدخال الأغراض ما عدا الأغراض الشخصية الصغيرة، وتمت
متابعة هذه الأمور على مدار الساعة من قِبل رجال مكلَّفين بهذه المهمة من قبل
المملكة السعودية وتم تزويدهم بكل الإمكانات المادية والمعنوية، ومع هذا كله فإننا
نرى اليوم أنّ بعض الشباب يقف في المسعى ومعه عربة لجر كبار السن بالأجرة أو
لتأجير العربة على الرغم من متابعة شرطة الحرم [بعضهم باللباس العسكري وبعضهم
باللباس المدني] ومعاقبتهم لهؤلاء الشباب الذين لا يحملون ترخيصاً بمزاولة
المهنة ضمن المسعى، وكذلك شأن سوق الليل قبل هدم أغلبه هذا العام 1429هـ فالمحلات
تُعلِّق وتَضَع أمامَها بضائعها، وكذلك بعض النساء والرجال يضعون خرقة في منتصف
الشارع ويَعرضون بضائعهم وأحياناً يَعرِضون بضائعهم لمن يلقاهم وهم يمشون في
السوق، كلُّ هذا يجري على الرغم من المتابعة والإمكانات الكبيرة لموظفي وشرطة
البلدية، فإذا كانت مثل هذه الأمور تجري في عصرنا فكيف كانت في العصور الماضية؟
علماً أن المسعى كان سوقاً حتى ما قبل التوسعة السعودية([29]).
وسأكتفي بذكر
نقل واحد فقط يعطي بعضاً من الفكرة التي ذكرتها آنفاً، قال الإمام الجَزِيري في
كتابه الدُّرر الفرائد المنظَّمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظَّمة 2/927: (وفي يوم الإثنين خامس عشر القعدة [من عام 960هـ] أُجهر النداء بمكة لجميع أصحاب الدكاكين بالمسعى ألَّا يبسطوا
أسبابهم إلاّ في نفس الدكاكين في الجُدُر، ولا يُخرِج قُدّام دكانه شيئاً،
ولا يَضع دكة خشب ولا غيرها، وفي ثاني المناداة ركب قاضي مكة ونائب جدة وأزالوا
جميع الدكك التي بالمسعى ليتسع المسعى وقد كان قديماً واسعاً، ثم ضُيق بالأبنية
لتسامح الناس للكِرَا من هذا المشعر تعدياً وظلماً.............).
********************
الفصل
الرابع: تحديد طول وعرض المسعى بالأذرع والأمتار
لقد اهتم
العلماء ومؤرخو الحرم المكي بقياس جميع أبعاد المسعى، وذلك على الرغم من وجود
التواتر العملي على تحديد مكان المسعى، ولكن مِن شدة حرص العلماء على تحديد أبعاد
أماكن العبادة كالكعبة والمسعى فقد قاسوا كلَّ شيء، حتى إنك حين تقرأ قياساتهم
تجزم أنّ المسعى لو أزيل عن بَكرة أبيه لاستطعنا معرفة مكانه بدقة من خلال هذه
المقاسات، فقد قِيست المسافة بين أركان الكعبة وبين مواضع بالمسعى، وكذلك بين مقام
إبراهيم وبين مواضع بالمسعى، وكذلك طول المسعى من أسفل الصفا إلى أسفل المروة ومن
وسط الصفا إلى وسط المروة، وكذلك من الصفا إلى الميل الأخضر وما بين الميلين ومن
الميل الثاني إلى المروة، وكذلك مقاسات كثيرة سأعرض لنقل بعضها، وقد بلغتْ بهم
الدقة أن قاسوا محيط وطول بعض الأعلام المحدِّدة للمسعى، فلو أنك - أخي القارئ
الكريم - قرأت كلامهم جميعه لجزمت أنه لو كانت لديهم أدوات قياس الأبعاد الحديثة
الدقيقة لحددوا مكان المسعى بالميليمتر.
والآن سأنقل
بعض كلام العلماء في تحديد أبعاد المسعى، وسأجعل نقلي في مبحثين: المبحث الأول: تحديد عرض المسعى من كلام العلماء المؤرخين، وهذا
التحديد سيكون بالأذرع، والمبحث الثاني: تحديد عرض المسعى من كلام المتأخرين، وهذا التحديد سيكون بالأمتار، وتذكر
أخي القارئ أن هذه القياسات قام بها علماء ثقات كُثُر وفي أزمنة مختلفة، ولكن
سأكتفي بنقل بعض كلامهم اختصاراً، وأرجو أن يرجع القارئ الكريم إلى الكتب لِيَعجب
من شدة حرص المسلمين وعلمائهم على تحديد مكان المسعى بدقة تامة:
المبحث
الأول: تحديد عرض المسعى من كلام العلماء المؤرخين:
1.
قال الإمام الأزرقي في أخبار مكة 2/378: (ذِكر ذَرْعِ
ما بين الركن الأسود إلى الصفا وذرع ما بين الصفا والمروة: قال أبو الوليد: وذرع
ما بين الركن الأسود إلى الصفا مائتا ذراع واثنان وستون ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً([30])، وذرع ما بين
المقام إلى باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا مائة ذراع وأربعة وستون ذراعاً
ونصف، وذرع ما بين باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا إلى وسط الصفا مائة ذراع
واثنا عشر ذراعاً ونصف، وعلى الصفا اثنتا عشرة درجة من حجارة، ومن وسط الصفا إلى
علم المسعى الذي في حد المنارة مائة ذراع واثنان وأربعون ذراعاً ونصف، والعلم
أسطوانة طولها ثلاثة أذرع، وهي مبنية في حد المنارة، وهي من الأرض على أربعة أذرع،
وهي ملبسة بفسيفساء، وفوقها لوح طوله ذراع وثمانية عشر إصبعاً وعرضه ذراع، مكتوب
فيه بالذهب، وفوقه طاق ساج، وذرع ما بين العلم الذي في حد المنارة إلى العلم
الأخضر الذي على باب المسجد - وهو المسعى - مائة ذراع واثنا عشر ذراعاً، والسعي
بين العلمين، وطول العلم الذي على باب المسجد عشرة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، منه
أسطوانة مبيضة ستة أذرع، وفوقها أسطوانة طولها ذراعان وعشرون إصبعاً، وهي ملبسة
فسيفساء أخضر، وفوقها لوح طوله ذراع وثمانية عشر إصبعاً، واللوح مكتوب فيه بالذهب،
وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى المروة خمسمائة ذراع ونصف ذراع، وعلى
المروة خمس عشرة درجة، وذرع ما بين الصفا والمروة سبعمائة ذراع وستة وستون ذراعاً
ونصف، وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار
العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف، ومن العلم
الذي على باب دار العباس إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي
في حد المنارة - وبينهما الوادي - مائة ذراع وأحد وعشرون ذراعاً............ ومن
المقام إلى الصفا مائتا ذراع وسبعة وسبعون ذراعاً، ومن الصفا إلى المروة طواف واحد
سبعمائة ذراع وستة وستون ذراعاً ونصف، يَكونُ سَبْعٌ بينَهما خمسةُ آلافٍ
وثلاثمائة ذراع وخمسة وستون ذراعاً ونصف).
2.
وقال الإمام الفاكهي في أخبار مكة 4/93: (ذِكر ذَرْع
ما بين الركن إلى الصفا، وذرع ما بين الصفا والمروة، وتفسير ذلك، وذرع ما بين
الركن الأسود والصفا مائتا ذراع واثنان وستون ذراعاً وثماني عشرة إصبعاً، وذرع ما
بين المقام إلى باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا مائة ذراع وأربعة وستون ذراعاً
واثنتا عشرة إصبعاً، وذرع ما بين باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا إلى وسط
الصفا مائة ذراع واثنتا عشرة إصبعاً، وعلى الصفا اثنتا عشرة درجة من حجارة، ومن
وسط الصفا إلى علم المسعى الذي حذاء المنارة مائة ذراع واثنان وأربعون ذراعاً
واثنتا عشرة أصبعاً، والعلم أسطوانة طولها ثلاثة أذرع، وهي مبنية في حد المنارة،
وهي من الأرض على أربعة أذرع، وهي ملبسة فسيفساء أخضر، وفيها لوح طوله ذراع وثماني
عشرة أصبعاً، وعرضه ذراع مكتوب فيه بالذهب، وفوقه طاق ساج، وذرع ما بين العلم الذي
في حد المنارة إلى العلم الأخضر الذي على باب المسجد وهو المسعى مائة ذراع واثنا
عشر ذراعاً، والسعي بين العلمين وطول العلم الذي على باب المسجد عشرة أذرع وأربع
عشرة إصبعاً، منها أسطوانة مبيضة ستة أذرع، وفوقها أسطوانة طولها ذراعان وعشرون
إصبعاً، وهي ملبسة فسيفساء أخضر، وفيها لوح طوله ذراع وثماني عشرة إصبعاً، واللوح
مكتوب فيه بالذهب، فكان على ذلك حتى كانت سنة ست وخمسين ومائتين، فعمره بشر الخادم
وجدده وكتب عليه اسم الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين، وأنه أمر بعمارته،
وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى المروة خمسمائة ذراع واثنتا عشرة
أصبعاً، وعلى المروة خمس عشرة درجة، وذرع ما بين الصفا والمروة سبعمائة ذراع وستة
وستون ذراعاً واثنتا عشرة إصبعاً، وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى
العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما وبينهما عرض
المسعى خمسة وثلاثون ذراعاً واثنتا عشرة إصبعاً، ومن العلم الذي على باب دار
العباس رضي الله عنه إلى العلم الذي عند دار ابن عباد بحذاء العلم الذي في حد
المنارة وبينهما الوادي مائة ذراع وواحد وعشرون ذراعاً............ ومن المقام إلى
الصفا مائتا ذراع وسبعة وسبعون ذراعاً، ومن الصفا إلى المروة طواف واحد سبعمائة
وستة وستون ذراعاً واثنتا عشرة إصبعاً، يَكُون بينَهما سَبْعٌ خمسةُ آلافٍ
وثلاثمائة ذراع وخمسة وسبعون ذراعاً واثنتا عشرة إصبعاً).
3.
وقال الإمام الفاسي في شفاء الغرام 1/519 وما بعدها: (وقد حررنا مقدار ما بين هذه الأعلام طولاً وعرضاً، وذلك أن من
العلم الذي في حد باب المسجد الحرام المعروف بباب العباس عند المدرسة الأفضلية إلى
العلم الذي يقابله في الدار المعروفة بدار العباس ثمانية وعشرون ذراعاً إلا ربع
ذراع، بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد إحدى وثلاثين ذراعاً وخمسة أسباع ذراع،
وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار هذين العلمين([31]) .............).
4.
قال با سلامة في عمارة المسجد الحرام ص299: (ذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى المسجد إلى العلم الذي بحذائه
على دار العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض المسعى ستة وثلاثون ذراعاً ونصف، ومن
العلم الذي على باب دار العباس إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم
الذي في حد المنارة وبينهما الوادي مائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعاً).
المبحث
الثاني: تحديد عرض المسعى من كلام المتأخرين:
1. قبل أن تبدأ
أعمال التوسعة السعودية الأولى منذ خمس وخمسين سنة أمر الملك سعود بن عبد العزيز
بتكليف لجنة من كبار العلماء والمهندسين المختصين بالمساحة لقياس حدود المسعى قبل
البدء بهدم أيّ بيت حول المسعى أو إزالة أيّ عَلَم من حدود المسعى من الأعلام
المتوارثة على مرّ العصور، فقامت هذه اللجنة بعملها على أرض الواقع، مع مراجعة كلّ
ما كتب عن المسعى وسؤال أهل مكة الكبار والاطلاع على جميع الخرائط ومراجعة صكوك
البيوت حول المسعى حتى إنهم رجعوا لصكٍّ مسجل بالمحكمة الكبرى بمكة عام 1171هـ أي قبل 258سنة، ثم أصدرت بالإجماع بياناً مطولاً بتاريخ 23/9/1374هـ وسأنقل من هذا البيان ما يعنينا في تحديد حدود المسعى
بالأمتار، وأرجو أن ينتبه القارئ الكريم إلى أنّ حدود المسعى محددة بدقة حتى على
مستوى السنتمتر الواحد، وأن ينتبه إلى أن عرض المسعى عند منطقة الميل الأخضر الذي
من جهة الصفا والذي يحدّه من جهة الحرم قنطرة مسماة (باب العباس) أنّ تحديد
المسافة قالوا بعده: (تقريباً)، لِيبينوا أنّ المسافة قد تزيد سنتمتراً ونحوَه أو
تنقص سنتمتراً ونحوَه، وهذا يدلّ على مدى تحري ودقة عمل اللجنة، ومَن أراد الرجوع
إلى النص الكامل للبيان فليراجع كتاب (فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل
الشيخ) 5/140، وإليك ما يعنينا من البيان: (.......فيما يتعلق بتحديد
عرض المسعى مما يلي الصفا، فرأينا هذا الميل يقع عن يسار الخارج من باب الصفا
القاصد إلى الصفا. وفي مقابل هذا الميل من الجهة الغربية على مسامتته ميل آخر
ملتصقًا بدار الأشراف الناعمة فاصل بينها طريق الخارج من باب الصفا في سيره
إلى الصفا. وما بين الميل الأول المذكور الذي بركن دار الشيبي المنتزعة ملكيتها
حالاً والمضافة إلى الصفا وبين الميل الذي بركن دار المناعمة ثمانية أمتار وثلاثون
سنتيمًا. هي سبعة عشر ذراعًا، ومن دار المفتاح التي تقع بين الساعي من الصفا إلى
الميل الأول الواقع بدار الشيبي تسعة عشر مترًا ونصف متر. ومن الميل الذي بدار
الشيبي إلى درج الصفا للحرم الشريف خمسة وعشرين([32]) مترًا وثمانين سنتيمًا، كما أنّ بين الميل الذي بقرب
الخاسكية ببطن الوادي والميل الذي يحاذيه بركن المسجد الحرام ستة عشر مترًا ونصف
متر، كما أن بين الميل الذي بدار العباس وباب العباس ستة عشر مترًا ونصف متر
تقريبًا).
2. منذ نحو 51 سنة قام مكتب توسعة الحرم المكي ببناء مزلقان ليسهل الصعود للصفا والمروة،
فثارت حفيظة بعض الناس بأنّ هذا المصعد قد خرج بالناس عن البينية بين الصفا
والمروة، فأمرت وزارة الداخلية بتشكيل لجنة من ثمانية علماء من أشهر وأوثق علماء
المملكة عند الناس للوقوف على الموضوع على أرض الواقع، وبعد دراسة لمدة 12 يوماً أصدرت بياناً فيه الأمر بإزالة الجزء الشرقي من المزلقان من جهة
المروة لأنه خارج عن المسعى([33]) وإبقاء بقية المزالق، والذي يعنينا هنا من البيان قولهم
فيه: (فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة
الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض
المذكور يبلغ ستة عشر مترًا)، ومَن أحب قراءة البيان كاملاً فليرجع لكتاب
"فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ" 5/140
3. في أول عام 1380هـ أي قبل 49 سنة أرادوا إزالة الحاجز الخشبي المحدِّد لبعض أجزاء
المسعى وبناء حائط إسمنتي مكانه، فأمر الديوانُ الملكي بتشكيل لجنة لمراجعة الحدود
ودراسة مخطط البناء، ومما جاء في بيان اللجنة: (.........على أنّ المحل المحجور
بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا........... ومَن وَقَف عليه فقد وقف على
الصفا كما هو مشاهد، ............ أنّ جميع ما أدخلته هذه العمارة الجديدة فإنه
يَشمله اسم المسعى، لأنه داخل في مسمى ما بين الصفا والمروة، ويَصدق على مَن سعى
في ذلك أنه سعى بين الصفا والمروة. هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل
ينبغي حضور كل من المشايخ ........) وفعلاً تمّ حضور العلماء المذكورة أسماؤهم
أثناء عملية البناء ووقّعوا أنّ البناء الحالي كله ضمن المسعى، ونص البيان موجود
في كتاب "فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم" 5/138.
********************
الفصل الخامس: بيان بطلان
الشبه التي احتج بها مبيحو توسعة المسعى
سأجعل هذا الفصل في مبحثين: المبحث
الأول: في الرد عليهم إجمالاً، والمبحث الثاني: في الرد عليهم تفصيلاً.
المبحث الأول: بيان بطلان
الشبه التي احتج بها مبيحو التوسعة إجمالاً:
أيها القارئ الكريم إن كنت من العلماء أو طلاب العلم الذين درسوا الفقه
وأصوله فأنت تعلم بداهةً أنّ المسائل المجمَع عليها لا تحتاج لدليل يُثبِتها إلاّ
على سبيل الاستئناس ولا تقبل أيَّ دليل لنقضها، فإذا ثبت لديك أنه من عهد سيدنا
رسول الله r
إلى عام 1427هـ
كان جميع المسلمين يسعون في مكان محدَّد وأنه لم يُنقَل عن أيّ مسلم أنه سعى
خارج المسعى، فهل ثمة إجماع أقوى من هذا الإجماع؟! وهل يمكن لشُبْهةٍ أو أكثر
أن تقف في وجه هذا الإجماع؟! حتى إنه لو أجمعت الأمة في عصرنا على صحة السعي خارج
المسعى المعروف لَمَا صح إجماعها؛ لأنّ القاعدة أنّ "الإجماع المتقدِّم لا
يُنسَخ بإجماع لاحق"، فكيف إذا علمنا أنّ جميع الأدلة التي أوردها المبيحون
لتوسعة المسعى ليست أدلة، إنما شبهٌ عائمةٌ كما ستحكم بنفسك في المبحث الثاني؟!
المبحث
الثاني: تفصيل شبه الإباحيين الذين أباحوا توسعة المسعى المعروف
في هذا الفصل
سأذكر الشبه التي استدل بها المشايخ الذين أباحوا توسعة المسعى، ولكني قبل البدء
بذكر الشبه والرد عليها سأعرض لمسألتين:
المسألة الأولى: أنني سأذكر الشبهة دون ذكر قائلها، لأنني لاحظت مِن تتبعي لمسألة المسعى
منذ بدايتها أنه كلّما نفث الشيطان في رُوع أحدهم شبهةً يَرُدُّ بها الإجماعَ ما
يَلبثُ المبيحون أن يتناقلوها ويذكروها دون ذكر مصدرها الأول، مما جعل أغلب الشبه
مكررة في كلام ورسائل الكثيرين، ولكن إذا أحب القارئ الكريم أن يرجع لكلام
المبيحين ذاته فليدخل إلى "الإنترنت" وليكتب في كلمات البحث عبارة
"المسعى الجديد" وسيجد من الرسائل والكلام والكتب الشيءَ الكثير، ثم
ليفتح ما شاء منها.
المسألة الثانية: أنّ البحث في الأدلة وردّها هو من عمل الفقهاء المجتهدين؛ لأنّ أي عِلم له
اصطلاحاته وفيه قواعد مُطَّرِدة وقواعد مخصوصة وفيه استثناءات ومسائل دقيقة وأخرى
متشابهة، وهذا متَّبَع في كل العلوم إلاّ في علم الشريعة في عصرنا هذا، فإنك تجد
أنّ بعض المسلمين سواء كان مثقفاً أم لا تَجِدُه إذا نَقلت له حكماً فقهياً يسألك
عن الدليل، فإن اقتنع منك فربما طبق وربما لا، وإن لم يقتنع فإنه يردّ الحكم
الفقهي ولو أخبرته أنه موجود في جميع كتب الفقه، على أيّ حال سأذكر الشُّـبَه ثم
أبيّن أنها لا يصح الاحتجاج بها لتوسعة المسعى، وسترى أخي القارئ أنه حتى العامي
الذي سيقرأ الردود سيفهمها ويقتنع بها بسبب وضوح استعمال شُـبَه جواز توسعة المسعى
في غير موضعها، بالإضافة لقوة أدلة تحديد المسعى وعدم جواز توسعته.
وها هي ذي شبه
المبيحين والأدلة على بطلان الاستدلال بها، مع ملاحظة أن للمبيحين أربعة شُبهٍ هي
أقوى أدلتهم، وهي الأدلة التي استطاع بها القائمون على توسعة المسعى أن يُدلِّسوا
ويَخدعوا مشايخ المسلمين لإيهامهم أنّ (التوسعة لم تَخرج عمّا بين الصفا والمروة،
وأنها على فرض خروجها فإنّ هذا الخروج جائز شرعاً)، لذلك سأذكر هذه الأدلة بحسب
تسلسل كثرة مَن انخدع بها، ثم سأذكر بقية أدلة المبيحين:
الشبهة
الأولى:
قال مبيحو
التوسعة: (صدر صكّ رسمي أنه قد شهد ثلاثون شاهداً عدلاً أن جبلي الصفا والمروة
كانا عريضين أكثر من عرض المسعى الحالي، بحيث تكون التوسعة الجديدة ضمن الصفا
والمروة، ونحن نكتفي بشهادة شاهدين لإثبات قضايا هامة للمسلمين مثل صيام رمضان
ووقوف عرفات، فكيف هنا حيث يوجد ثلاثون شاهداً؟!).
الجواب: هذه أقوى أدلة مبيحي التوسعة، وكثير من أهل الفضل الذين
أفتوا بصحة توسعة المسعى اعتمدوا على هذا الدليل فقط، علماً أنّ هذا الدليل باطل
بطلاناً واضحاً كما سترى، ولكن التلبيس جاء من جهة أنّ القائمين على التوسعة
يَذكرون هذا الدليل لِيُقنعوا علماء المسلمين بصحة التوسعة ولكنهم
لا يُعلمونهم بتفاصيل الشهادة ولا ملابساتها، لذلك فإني سأذكر تفاصيل الشهادة
وملابساتها وتناقضاتها وستحكم بنفسك أنّ القائمين على التوسعة دلّسوا وخدعوا بل
تعمّدوا الكذب على المسلمين بهذا الدليل لِيُمرّروا توسعتهم، وسأردّ على هذا
الدليل بردود كثيرة، وكلّ ردٍّ يصلح لرد شهادة هؤلاء مِن أصلها، وإنما أردتُ ردّ
هذه الشهادة مِن أكثرَ مِن وجهٍ لأنّ بعض العوام ربما لا يُقنعه ردّ أو اثنان
فسيجد ردوداً أخرى تقنعه، والآن إليك الردود، ولكني أنبه أنني لن أتعرض للشهود
بقدح في عدالتهم أو صدقهم، بل سأنطلق مِن أنهم شهود عدول ثقات صادقون:
1. لدينا صورٌ
"فتوغرافية" وخرائطُ محفوظةٌ بشكل رسمي في متاحف أكثر مِن دولة إسلامية
وعالمية، وهذه الصور والخرائط مطبوعة ضمن كتب كثيرة ومنتشرة في العالم كله([34])، وهذه الصور والخرائط تبين الصفا والمروة وهما محدودان،
ويَظهر فيها أنّ الصفا والمروة لا يزيدان عن المسعى المعروف، فهل نُكذِّب هذه
الصور ثم نعتمد على إخبار شهودٍ على ما يذكرونه وهم صغار منذ عشرات السنين؟!
2. أثبتنا في هذا
الكتاب أنه منذ زمن النبي r وحتى عصرنا الحالي قبل التوسعات السعودية والصفا
والمروة بَقِيا على شكلهما وحالهما كما كانا في زمن النبي r، ولم يَتعرض أحد من الخلفاء أو غيرهم لأيّ تغيير فيهما
أو تنقيص أو زيادة عليهما، وقد وصف عشرات العلماء والرحالة المسلمين وغيرهم([35]) هاتين الصخرتين بكلام واضح وقياسات دقيقة، وكلُّهم
متفقون على كلام واحد يوافق ما نشاهده من عرض المسعى المعروف، هل نقبل بعد
هذا أن يأتي شهودٌ ليتذكروا أنّ صَخَرات الصفا والمروة كانت أعرضَ مما نشاهده
بأكثرَ من الضِّعف؟! وهل يعقل أن نُكذّب جميعَ العلماء ونُصدّق ذاكرةَ الشهود؟!
3. بتاريخ 1374هـ أمر الديوان الملكي بهدم بعض الدُّور الملاصقة للصفا، فأمر وزير
الداخلية بتشكيل لجنة من العلماء لإظهار حدود المسعى بحسب الوضع القائم بعد الهدم،
فاصطحبت اللجنةُ معها مهندساً فنيًّا وعاينوا الموقع، ثم أصدروا قراراً يوضِّح
بدقةٍ كاملَ التفاصيل لحدود المسعى بالعلامات المشاهَدة التي لم تُهدم بعدُ
وبقياس المسافات، ثم أُحِيل القرار إلى مفتي عام المملكة ورئيس القضاة، فتوجه
للموقع وعاينه وسأل رجالاً ثقاتٍ، ثم كتب تأييده للقرار، ولقراءة بعض عبارات
القرار راجع الفصل الرابع ـ المبحث الثاني، وسترى أنّ كلّ ما كتبوه ووصفوه يوافق
ما نعلمه عن عرض الصفا والمروة، ويخالف ما يقوله الشهود من أنّ الصفا والمروة كانا
أعرض من المسعى الحالي، والآن نقول: هل يمكن لعاقل أن يكذِّب هذه اللجنة ويصدق
هؤلاء الشهود؟! إنّ العاقل ليقول: صدقت اللجنة التي شاهدت ما يوافق كلام جميع
المسلمين، ووهم الشهود بما تذكروه عن عرض الصفا والمروة قبل عشرات السنين.
4. بتاريخ 10/2/1378هـ وأثناء إجراء لجنة بناء الحرم بعضَ التسهيلات في أرض
المسعى لتسهيل صعود الناس على الصفا وعلى المروة ثارتْ ثائرة أهل مكة أنّ حدود
الصفا والمروة عرضاً ستشتبه على بعض الآفاقيين مما سيجعلهم يسعَون خارج المسعى،
فأمرتْ وزارة الداخلية بتشكيل لجنة من ثمانية علماء من أهم وأشهر علماء المملكة
للوقوف على الموضوع على أرض الواقع، فقامت اللجنة بعملها، ووصفت حال المسعى وأنّ
الصفا والمروة على حالهما ظاهرَين يَتميّز طرفاهما للعِيان ويُشاهَدان بشكل واضح،
فقالت بالحرف الواحد: (وبالنظر لكون الصفا شرعًا هو الصخرات الملساء التي تقع في
سفح جبل أبي قُبَيس، ولكون الصخرات المذكورة لا تزال موجودة للآن وبادية
للعِيان........... فقد جرى ذَرْعُ عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى
نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر
أنّ العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا) ([36])، والذي يعنينا من هذا البيان كله أن نقول: لقد تعارضتْ
شهادة الشهود مع شهادة هذه اللجنة من العلماء، فقالت اللجنة بحسب رأي العين: إنّ صخرات
الصفا والمروة واضحة وعرضها واضح ومميّز للجميع وفصّلوا عرضَها بما يوافق ما كنا
نراه حتى عام 1428هـ، والآن جاء الشهود فقالوا: إننا نذكر قبل أكثر من
خمسين سنة أنّ الصفا والمروة كانا عريضين أكثر من عرضهما الحالي بكثير، فهل يُعقَل
أن نأخذَ بقول الشهود الذين يذكرون مِن أكثر من خمسين سنة أنّ الصفا والمروة
عريضان ونَرُدَّ شهادةً رسمية مِن علماءَ شاهدوا بأعينهم ووصفوا بدقة تامة ما
شاهدوه؟!
الجواب: لا يشكّ عاقل بأنّ الحقّ ما قالته اللجنة
ولم يُنقل أيُّ اعتراض عليها لا في زمنهم ولا حتى عام 1427هـ، وخاصة إذا أخذنا ملابسات تشكيل اللجنة أنها لفضّ نزاع بين أهل مكة وبين
لجنة بناء الحرم حول وضوح تحديد عرض المسعى، وأمّا شهادة الشهود فإنها جاءت وفيها
كثير من الملابسات التي سأذكرها والتي تلزمنا بردّ شهادة الشهود.
5. إنّ رئاسة شؤون الحرم وضعت خريطةً في
جميع ساحات الحرم المكي فيها تفصيل كامل مناطق الحرم وما حوله بعنوان "مخطط
إرشادي للمسجد الحرام"، قرأها ملايين الناس خلال سنوات طويلة، وفي هذه
الخريطة: (حدّ جبل الصفا داخلَ دائرة السعي مكتنَف بـ"باب أبي قُبَيس"
رقم 12
وسُلَّم أبي قُبَيس رقم 13)،
فهذه الخريطة الرسمية والصادرة عن أوثق مكتبٍ لوضع الخرائط الرسمية في المملكة وهو
"خرائط الفارسي" تدلّ دلالة واضحة أنّ التوسعة الحالية للمسعى بُنيتْ
خارجَ ما بين الصفا والمروة.
6. إنّ طريقة تسلسل إعلان شهادة الثلاثين
شاهداً مثيرة للريبة والشك، ففي البداية صدر صكّ رسمي عن المحكمة العامة بمكة
المكرمة ونشرت تفاصيل شهادة 7
شهود، فتكلم العلماءُ عن هذه الشهادة بأنها مردودة لأسباب سأذكرها بعد قليل، وأهم
أسباب ردّ هذه الشهادة أنّ أول شاهد لا يَتذكّر شيئاً عن عرض الصفا ولا عن عرض
المروة، فهل هذه شهادة؟! ثم لما رأى المسؤولون عن توسعة المسعى هذا الردّ المسكِت
أعلنوا بشكل رسمي أنه انضمّ للشهود 13 شاهداً
ليصبح المجموع 20
شاهداً، فطالبهم العلماءُ بإبراز نصّ شهادة الشهود، فأُحرجوا، وإلى الآن لم
يُبرزوا شيئاً، ثم نَشروا في جميع مواقع الإنترنت أنه أضيفت 10
شهادات ليصل العدد إلى 30
شاهداً، وجميع المشايخ والمواقع تتناقل أنّ عدد الشهود 30
شاهداً، أفيُعقل بعد هذا أن نقتنع بأنّ الجهات الناشرة لهذه الشهادات تريد إظهار
الحق؟!
7. والآن سأنقل
نصّ الصكّ الشرعي الذي أُثبتتْ فيه شهادة الشهود السبعة، وأعلّق عليه ليرى القارئُ
الكريم بنفسه أنّ قصة الشهود إنما حِيكَتْ كـ"تمثيلية" وخُدْعةٍ مِن
القائمين على توسعة المسعى للمسلمين ومشايخهم، كي يَصلوا بالنتيجة إلى تصديق
المسلمين لهم في كَذْبة أنّ الصفا والمروة كانا عريضين. والآن إليكم ما جاء في
الصكّ الشرعي الموثَّقة فيه شهادةُ الشهود بالمحكمة العامة بمكة المكرمة لدى
القاضي الشيخ عبد الله بن ناصر الصبيحي برقم 158/44/11 تاريخ 25/12/1427هـ:
في
يوم الأحد الموافق 24/12/1427هـ
حسب تقويم أم القرى حضر عميد معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج الدكتور
أسامة بن فضل البار([37])، وأَحضر معه فوزان بن سلطان بن راجح
العبدلي الشريف حامل البطاقة رقم 100164066
وهو من مواليد عام 1349هـ
فقرر قائلاً: (إنني أذكر أنّ جبل المروة يمتد شمالاً متصلاً بجبل قُعَيْقِعان([38])، وأمّا من الجهة الشرقية فلا أتذكر،
وأما موضوع الصفا فإنني أتوقف).
كما
حضر الدكتور عويد بن عياد بن عايد الكحيلي المطرفي حامل دفتر العائلة رقم 1001787769
وهو من مواليد عام 1353هـ،
وقرر قائلاً: (إنّ جبل المروة كان يمتد شرقاً من موقعه الحالي بما لا يقل عن
ثمانية وثلاثين متراً([39])، وأمّا الصفا فإنه يمتد شرقاً بأكثر من
ذلك بكثير).
كما
حضر فضيلة كبير سدنة البيت الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد القادر شيبي حامل
البطاقة رقم 1007139940
وهو من مواليد عام 1349هـ
فقرر قائلاً: (إن جبل المروة يمتد شرقاً وغرباً وشمالاً ولا أتذكر تحديد ذلك
بالمتر، وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بمسافة طويلة حتى يقرب من القشاشية بما لا
يزيد عن خمسين متراً).
كما
حضر حسني بن صالح بن محمد سابق حامل البطاقة رقم 1004080568
وهو من مواليد عام 1357هـ
وقرر قائلاً: (إن جبل المروة يمتد غرباً ويمتد شرقاً بما لا يقل عن اثنين وثلاثين
متراً، وكنا نشاهد البيوت على الجبل، ولما أزيلت البيوت ظهر الجبل، وتم تكسيره في
المشروع، وأما جبل الصفا فإنه يمتد من جهة الشرق بأكثر من خمسة وثلاثين أو أربعين
متراً).
كما
حضر مدير جامعة الملك عبد العزيز السابق معالي الأستاذ الدكتور محمد بن عمر بن عبد
الله زبير حامل البطاقة رقم 1050640554
وهو من مواليد عام 1351هـ
وقرر قائلاً: (إن المروة لا علم لي بها، وأما الصفا فالذي كنت أشاهده أن الذي يسعى
كان ينزل من الصفا ويدخل في برحة يمينه، وهذه البرحة يعتبرونها من شارع القشاشية،
ثم يعود إلى امتداد المسعى([40])، بما يدل على أن المسعى في تلك الأماكن
أوسع).
كما
حضر الدكتور درويش بن صديق بن درويش جستنيه حامل البطاقة رقم 1019559580
وهو من مواليد عام 1357هـ،
فقرر قائلاً: (إن بيتنا سابقاً كان في الجهة الشرقية من نهاية السعي في المروة،
وكان يقع على الصخور المرتفعة التي هي جزء من جبل المروة، وقد أزيل جزء كبير من
هذا الجبل بما في ذلك المنطقة التي كان عليها بيتنا، وذلك أثناء التوسعة التي تمت
في عام 1375هـ،
وهذا يعني امتداد جبل المروة شرقاً في حدود من خمسة وثلاثين إلى أربعين متراً
شرق المسعى الحالي، وأما الصفا فإنها كانت منطقة جبلية امتداداً متصلاً بجبل أبي
قُبَيس ويعتبر جزءاً منه، وكنت أصعد من منطقة السعي في الصفا إلى منطقة أجياد خلف
الجبل([41])).
كما
حضر محمد بن حسين بن محمد سعيد جستنيه حامل البطاقة رقم 1001770203
وهو من مواليد عام 1361هـ([42])، وقرر قائلاً: (إن جبل المروة كان يمتد
من الجهة الشرقية، والظاهر أنه يمتد إلى المدعى، وأما جبل الصفا فإنه يمتد شرقاً
أيضاً أكثر من امتداد جبل المروة).
فأمرت
بتنظيم صك بذلك([43])، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 24/12/1427هـ
القاضي عبد الله بن ناصر الصبيحي
والآن سأذكر الأدلة وإشارات التعجب
والاستفهام على الشهادة، بما نجزم معه بأن الشهود وهموا، وأن ذاكرتهم أخطأت، وبما
نجزم معه أيضاً بأن القائمين على توسعة المسعى أرادوا من الشهادة ذَرَّ الرماد في
أعين المسلمين وعلمائهم، لِيَخفى عليهم وضوحُ رؤية حرمة توسعة المسعى:
ü
إنّ
أول شاهد قال عن عرض الصفا: (أتوقف) وقال عن عرض المروة: (لا أتذكر)، وبقية كلامه
لا خلاف عليه ولا علاقة له بعرض المسعى، فذِكركم لهذا الشاهد يدلُّ على عدم
سلامة نيتكم وصدوركم، فمرادكم أن يُقال في الإعلام بأنّ كذا شاهداً شهدوا، وهذا ما
حصل فعلاً، وكان أكبرَ دليل أقنع كثيراً من علماء المسلمين بصحة التوسعة، ولئن نجح
أسلوبُكم هذا في تضليل العلماء في الأشهر الماضية فلا شكَّ أنّ التدليس والخداع
عاقِبته إلى فضيحة.
ü
إنّ
بعض الشهود لم يتذكر شكل الصفا أو المروة إنما قال رأيه واجتهاده وظنه، ونحن نريد
شهادة ولا نريد رأياً، فقد قال محمد زبير: (إنّ المروة لا علم لي بها، وأمّا
الصفا ......... بما يَدُلّ.......)، وقال درويش جستنية: (.......وهذا
يعني........)، وقال محمد جستنيه: (........والظاهر.......).
ü
إنّ
أغلب الشهود تكلموا بكلام مبهَم وغير دقيق، وإليك عباراتهم: (بما لا يقل عن 38متراً،
وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بأكثر من ذلك بكثير)، (إن جبل المروة يمتد شرقاً
وغرباً وشمالاً ولا أتذكر تحديد ذلك بالمتر)،
(إن جبل المروة يمتد غرباً ويمتد شرقاً بما لا يقل عن اثنين وثلاثين
متراً........... بأكثر من 35 أو
40
متراً)، (المسعى في تلك الأماكن أوسع)، (يمتد إلى المدعى........ أكثر من امتداد
جبل المروة)، فكلُّ هذه العبارات عبارات فضفاضة جداً، لا نص فيها على أنّ الزيادة
في العرض هل هي متر أم 100
متر؟ فهل نترك شهادة اللجان التي قاست المسافات بالسنتمتر ونأخذ بهذه الشهادة
الفضفاضة؟!
ü
لو أردنا رسم صورة في مخيلتنا عن الصفا أو المروة من خلال
شهادة هؤلاء الشهود لَمَا استطعنا ذلك بسبب تناقض الشهادات وعدم دقتها، أما
لو أردنا رسم صورة من خلال شهادة اللجان فإننا نستطيع لأنهم وصفوا الدرجات
والمسافات والحديد والخشب ولون العَلَم عند صخرات الصفا وغيرها بدقة، أفنترك هذه
الشهادة الواضحة بتفاصيلها ونأخذ بشهادات هؤلاء الشهود؟!
ü
مِن شروط أداء الشهادة أن يأتي الشاهد بلفظ الشهادة، وهذا لم
يحصل هنا، فكيف نبني صحة ركن من أركان ديننا على إقرار رجال لم يذكروا لفظ الشهادة
ولم يُقسِموا الأيمان المغلظة أنهم صادقون؟
ü
إنّ طريقة تجميع الشهود مثيرة للريبة، فعميد "معهد خادم
الحرمين الشريفين لأبحاث الحج" لو أراد إظهار حقيقة عرض المسعى لأعلن لجميع
الناس طَلَبَه مِن كبار السن العدولِ الثقاتِ أن يُدلوا بشهادتهم سواء كانت بـ(أنّ
عَرْضَ الصفا والمروة كان أعرضَ من المسعى) أم (كان كما نراه الآن) أم (كان أضيق)،
ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا، إنما جَمَعَ في معهده مَن يُؤيّد فكرته،
ثم أحضرهم للمحكمة ليثبِّت شهادتهم، فلا بُدَّ أن يَستنتجَ العاقل مِن هذا
التصرف أنه لم يُرِد إظهار الحقيقة إنما أراد الوصول لنتيجة محدَّدة([44]).
8. وأخيراً أقول: أيها القائمون على شؤون
الحرم! لقد أعلنتم في العهد السابق وبشكل رسمي أنه لا يصح توسعة المسعى لأنكم
استنفذتم ما بين الصفا والمروة، والآن في هذا العهد تقولون بشكل رسمي أنّ المسعى
يمكن توسعته وأنّ هذه التوسعة ما تزال ضمن الصفا والمروة، ولا ندري في العهد
القادم ماذا ستقولون، فهل يحق لنا مطالبتكم بعدم التلاعب بركنٍ من أركان ديننا؟!
-----
الشبهة
الثانية:
قال مبيحو
التوسعة: (إن قاعدة جبل الصفا وجبل المروة أعرض من الظاهر، وإننا إذ نوسع المسعى
فإننا نسعى بين الصفا والمروة ولم نخرج عنهما).
الجواب: هذه ثاني أقوى أدلة مبيحي التوسعة، وهذا الدليل أيضاً
فيه تدليس وخداع من القائمين على توسعة المسعى للمسلمين؛ لأنهم يَعلمون ويشاهدون
ولديهم جميع المخططات التي تبين أنّ صخرات الصفا ليست جبلاً مستقلاً حتى تكون لها
قاعدة أعرض من القمة، بل هي جزء من جبل أبي قُبَيس، وجبل أبي قُبَيس كبير جداً
ومتصل من الجهة الشرقية بجبل قُعَيْقِعان تحت الأرض، فإنهم عندما حفروا حول الصفا
وجدوا أنّ تركيب صخور الصفا وصخور أبي قُبَيس واحد، ولا يوجد أيُّ فاصل
بينهما، وهذا يدل بشكل واضح أنّ الصفا هو تلة صغيرة من تلال كثيرة وكبيرة تسمى
بمجموعها "جبل أبي قُبَيس"، فلا يمكن أن نقول: إنّ لكل تلة من هذه
التلال قاعدةً أعرضَ تحتَ سطح الأرض، وهذا الكلام بتمامه ينطبق على المروة التي هي
جزء من جبل قُعَيْقِعان، وإثبات هذا الكلام [أنّ الصفا والمروة ليسا جبلَين
مستقلين وأنه ليس لهما قواعد أعرض من الظاهر منهما] هذا الكلام تدل عليه أدلة
كثيرة سأسردها باختصار:
1. هذا أمر واضح
ومشاهَد للعِيان لكلّ مَن زار مكة ودقق في هذا الموضوع وخاصة بعد إزالة الفنادق
التي كانت على جبل قُعَيْقِعان، وقد صورتُ كلَّ هذه المشاهد تصوير
"فيديو".
2. إذا قلتم: إنّ
قاعدة الصفا والمروة عرضاً أعرضُ مما هو ظاهر منهما ويصح السعي بين القواعد أيضاً،
فإننا نقول: قد اتفق الجميع أنّ الصفا يمتد طولاً حتى الميل الأخضر وأنّ المروة
يبدأ من عند الميل الأخضر الثاني، وأنّ ما بين الميلين الأخضرين هو الوادي بين
الجبلين طولاً، وهذا أمر يعرفه الجميع ومذكور في جميع كتب التاريخ والفقه فقد كانت
السيدة هاجر تمشي نزولاً عن الصفا ثم تهرول بين الجبلين ثم تصعد مشياً على المروة،
فيلزم من هذا الكلام أنّ السعي يصح إذا سعينا فقط بين الميلين الأخضرين، بل إننا
لو حفرنا أساسات الجبلين لوجدنا أنّ الجبلين متصلين فيما بينهما وهذا يعني بحسب
قاعدة اتباع أصل الجبل أنه مَن لم يسعَ فلا إشكال عليه، وبهذا نبطل السعي من
أساسه، فهل ترضون بهذا الكلام؟!
3. إنّ الصفا
والمروة لم يكن النبيُّ r ولا أحدٌ في عصره يسميهما بلفظ (جبل الصفا) (جبل
المروة)، إنما هذه التسمية بدأت مع مرور العصور حتى أصبح هو الشائع في زماننا، بل
إن جميع الناس في عصر الصحابة كانوا يسمون الصفا بما يدل على حقيقته، وإليك طائفة
من هذه الأحاديث:
ü
أخرج الشيخان([45]) عن ابن عباس t قال: (لما نزلت ]وأنذر عشيرتك الأقربين[ [الشعراء214] صَعَّد النبيُّ r على الصفا فجعل ينادي: يا بني فِهْر يا بني عَدِي
لِبُطون قريش، حتى اجتمعوا، فجَعَلَ الرجلُ إذا لم يستطع أن يَخرج أرسل رسولاً
لِيَنظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال r: أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد أن
تُغِير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نعم، ما جَرّبنا عليك إلاّ صِدقاً، قال:
فإني نذير لكم بين يدَي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائرَ اليوم ألهذا
جمعتنا، فنزلت: ]تبت يدا أبي لهب وتب
ما أغنى عنه ماله وما كسب[ [المسد1]) وكذلك بقيةُ
روايات الحديث من طريق أبي هريرة وعائشة كلُّها بلفظ "الصفا" دون تسميته
بالجبل.
ü
وهذا الحديث في روايةٍ ثانية([46]) عن قَبِيصة بن المخارِق وزهير بن عَمرو بلفظ:
(........انطلق نبيُّ الله r إلى رَضْمةٍ [بسكون الضاد وفتحها] مِن جبلٍ فعلا أعلاها
حجراً ثم نادى........)، ورواها إبراهيم الحربي في غريب الحديث برقم (1278) بلفظ: (رَضَمةِ جبلٍ) ثم قال: (قوله: إلى رَضْمة جبلٍ: أخبرني أبو نصر عن
الأصمعي: الرِّضام: حجارة وصخور عظام).
ü
وفي رواية([47]) بلفظ: (.....رَضْفَةٍ فعلا أعلاها حجراً....)، قال
الثعالبي في فقه اللغة 1/67: (الرَّضْفة:
الحجر فيسخن به القدر أو ما يكبب عليه اللحم)
ü
وفي رواية([48]) بلفظ: (........ربوةٍ مِن جبلٍ فعلا أعلاها
حجراً.......)، قال الثعالبي في فقه اللغة 1/64 وهو يعدد مراتب ارتفاع الأرض وتسمياتها: (فإذا كان طولها في السماء مثلَ
البيت وعرض ظهرها نحو عشر أذرع فهو التل، وأطول وأعرض منها الرَّبوة [بفتح الراء
وضمها وكسرها] والرَّابية).
ü
وفي رواية([49]) بلفظ: (....علا صخرةً من جبل فعلا أعلاها حجراً....)
ü
وفي رواية([50]) بلفظ: (......رَخْمةٍ من جبل، فعلا أعلاها حجراً......)
ü
وفي رواية([51]) بلفظ: (......صِمَّةً من جبل، فعلا أعلاها حجراً......)
ü
وفي رواية([52]) بلفظ: (......رهضةً من جبل، فعلا أعلاها حجراً.....)
ü
وفي رواية([53]) بلفظ: (......وَضْمةً من جبل، فعلا أعلاها حجراً.....)
فانظر إلى وصف الصفا في عصر النبي r والصحابة والتابعين، فكلُّ راوٍ ذكر الصفا بوصف،
وكلُّهم مجمِع على معنىً واحدٍ، أنّ الصفا جزء صغير مِن
جبلٍ وليست جبلاً مستقلاً، وثمة أحاديث كثيرة أخرى فيها هذا المعنى ولكني
اخترت هذا الحديث برواياته واكتفيت به.
4. ذكرتْ جميع كتب
التاريخ واللغة والمعاجم الجغرافية التي ذكرتْ الصفا والمروة أنّهما ليسا جبلَين
مستقلَّين بل هما جزء صغير من جبلَين كبيرَين، وإنّ تسميتهما أحياناً بالجبل
لتمييزهما عن بقية أجزاء الجبل؛ لأنّ لهما تعلقاً بأحكام الحج والعمرة في الجاهلية
وفي الإسلام، حتى إنّ بعض المراجع ذكرتْ أنّ الصفا والمروة صخرتان كبيرتان من
جبلين، والآن سأسرد بعض كلام المراجع التي ذكرت هذه المعاني دون شرحٍ لكل مقولة
اكتفاءً بما أوضحته في هذه المقدمة، مع العلم أنه لا يوجد ولا مرجع واحد ذكر أنّ
الصفا والمروة هما جبلان مستقلان قائمان بنفسَيْهما:
ü
قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات 3/316: (الصفا: هو مبدأ السعي، مقصور، وهو مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام،
وهو أنفٌ من جبل أبي قُبَيس، وهو الآن إحدى عشرة درجة فوقها أَزَج([54]) كإيوان، وعرض فتحة هذا الأَزَج نحو خمسين قدمًا، وأمّا
المروة فلاطئة([55]) جداً، وهي مِن أنف جبل قُعَيْقِعان، وهي درجات، وعليها
أيضًا أَزَج كإيوان، وعرض ما تحت الأَزَج نحو أربعين قدمًا).
ü
قال الإصطخري في المسالك والممالك 1/7: (والصفا مكان مرتفع من جبل أبي قُبَيس....... والمسعى ما بين الصفا
والمروة، والمروة حجرٌ مِن جبل قُعَيْقِعان).
ü
قال ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار 1/31: (أمّا الصفا فحجرٌ أزرق عظيم في أصل جبل أبي قُبَيس...... وأمّا المروة
فحجر عظيم ...)
ü
قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط مادة (صفو):
(والصَّفا: من مَشاعِرِ مَكَّةَ بِلِحْفِ أبي قُبَيس).
ü
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق 41/261: (.....فأشرف أبو ريحانة على أبي قُبَيس، وهو الجبل الذي فيه الصفا،
فصاح.......).
ü
قال ابن الجوزي في المنتظم 1/4: (قال العلماء بالسير: أبو قُبَيس: هو الجبل المشرِف على الصفا).
ü
قال ياقوت الحَمَوِي في معجم البلدان مادة (صفا): (أمّا
الصفا فمكان مرتفع مِن جبل أبي قُبَيس، بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي
هو طريق وسوق).
ü
وقال ابن عبد رَبِّه في العِقد الفريد 2/490: (ثم الصفا في أصل جبل أبي قُبَيس).
ü
قال البَهُوتِي في كشاف القناع 7/202: (المروة وهي أنفُ جبلِ قُعَيْقِعان).
ü
قال الشَّرواني في حاشيته 4/98: (المروة........وهي في طرف جبل قُعَيْقِعان).
5. وأخيراً نقول: كُلُّ الصفا والمروة ليسا مُرادَين بحدِّ ذاتهما، إنما الصفا والمروة علامتان لتحديد طول وعرض مكان
السعي، فلو أننا أزلنا هاتين العلامتين لبقي مكان
السعي كما هو، وكذلك لو أحضرنا الأحجار وأضفناها للصفا والمروة حتى أصبحا
كبيرَين لَمَا اتسع مكان السعي وإنما لبقي مكان السعي كما هو، وكذلك لو نقلنا كلَّ حجارة الصفا والمروة إلى دمشق فهل
يصبح السعي بدمشق؟! فإذاً الصفا والمروة دليل على مكان المسعى وقد حصل بيان
المكان بهما، فلا نقول إننا سنبحث عن تتمة أحجارهما تحت الأرض، ولهذا المعنى أشار
ابن عاشور في التحرير والتنوير 9/270: (وشعائر
الله: لقب لمناسك الحج، جمع شَعِيرة بمعنى: مُشعِرَة، بصيغة اسم الفاعل، أي:
مُعلِمَة بما عيّنه الله).
عِلماً أنّ فكرة إزالة الصفا والمروة بالكامل وجعْل
المسعى مستقيماً لا إشكالَ فيها من الناحية الشرعية، وقد اقترحتها اللجنة
التنفيذية لتوسعة المسجد الحرام في عام 1377هـ فلم ترَ هيئةُ كبار العلماء فيها إشكالاً شرعيًّا، ولكنها رفضتها لأسباب
ذكرتها بقولها: (يتعين ترك الصفا والمروة على ما هما عليه أوّلاً، ويسعنا ما وسع
مَن قبلنا في ذلك، ولو فُتحت أبواب الاقتراحات في المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون في
المستقبل مسرحًا للآراء، وميدانًا للاجتهادات، ونافذة يُولَج منها لتغيير المشاعر
وأحكام الحج، فيحصل بذلك فساد كبير) ([56])، وهذا يدلنا على مدى الفرق في الفهم والحكمة بين
المسؤولين عن الحرم وقتَها وبين المسؤولين عن الحرم الآن.
-----
الشبهة
الثالثة:
قال مبيحو
التوسعة: (إن حُكْم الحاكم يرفع خلاف العلماء، وقد اختلف العلماء في حكم توسعة
المسعى، وحَكَم الحاكم بقول مَن أباح التوسعة، لذلك فإنّ على علماء المسلمين أن
يفتوا بحكم الحاكم وهو جواز توسعة المسعى والسعي فيه).
الجواب: كلُّنا يعلم أنّ حكام العرب والمسلمين إذا أصدروا أمراً
فإنّ علماء زماننا إمّا أن يُجمعوا على سَداد أمره شرعاً أو أن يختلفوا، فلو أننا
طبقنا هذه القاعدة على أوامر الحكام فالكلُّ يعلم ماذا سيحدث في كلّ دولة، فإذاً
هذه القاعدة لها شروط وضوابط، وهذه الضوابط يتعلق بعضُها بتقوى وبعلم الحاكم
ويتعلق بعضها بتقوى وبعلم العلماء الذين اختلفوا، ويتعلق بعضها بالمسائل التي يمكن
أن تُطبّق عليها القاعدة، ولن أتكلم عن الشروط المتعلقة بالحاكم والعلماء، إنما
سأكتفي بذكر شرط واحد أجمعت المذاهب جميعها عليه يبين لنا أنّ تطبيق القاعدة على
المسعى لا يصح، هذا الشرط هو أن تكون المسألة المعروضة على الحاكم من المسائل
المجتهَد فيها لا أن تكون من المسائل التعبدية المحضة التي لا محل للاجتهاد
فيها، كالأماكن المخصَّصة بعبادةٍ معينة، كالطواف والسعي وموقف عرفات، فالطواف
مخصص بكونه خارجَ الكعبة وداخلَ المسجد مهما اتسع، والسعيُ مخصَّص بكونه بين الصفا
والمروة طولاً وعرضاً، وموقف عرفات مخصص بعلامات واضحة نقلت لنا بالتواتر، فهذه
الأماكن لا تخضع لاجتهاد المجتهدين ولا لحكم الحكام، فإذاً لا يصح الاحتجاج
بهذه القاعدة في توسعة المسعى، لأنكم أتيتم بقاعدة
صحيحة في ذاتها ولكن وضعتموها في غير موضعها.
-----
الشبهة
الرابعة:
قال مبيحو
التوسعة: (من القواعد الشرعية المتفق عليها "الضرورات تبيح المحظورات"،
"كلّما ضاق الأمر اتسع"، "المشقة تجلب التيسير"، وقد اضطررنا
لتوسعة المسعى، فتجوز توسعته، وكلما اضطررنا للتوسعة نوسع).
الجواب: هذا الاستدلال لتوسعة المسعى خطأ جملة وتفصيلاً، وإليك
البيان:
1. إن مَثَلَكم
كمَثَلِ مَن غصّ بلقمة وأمامَه كأسٌ من الماء وكأس من الخمر، فترك الماء وشرب
الخمر ثم قال: "الضرورات تبيح المحظورات"، ففي موضوع السعي يمكن التخلص
من مشكلة الزحام ببناء طوابق فوق بعضها وكذلك طوابق تحت الأرض؛ لأنّ النبي r سعى راكباً ولأنّ مَن ملك أرضاً ملك فضاءها، فلماذا
الإصرار على بناء مسعىً ثانٍ واستباحة المحرَّمات مِن أجله؟!
2. إنّ قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" وغيرها صحيحة وشرعية ولكنها
تطبق ضمن ضوابط وفي مسائل معينة وليس في جميع مسائل الدين، وهذا المعنى مقرَّر لدى
علماء أصول الفقه في جميع المذاهب الفقهية ولكن سأكتفي بنقلٍ واحدٍ، فقد قال ابن
نُجَيم في الأشباه والنظائر 1/117: (المشقة والحرج إنما يُعتبر في موضوع لا نصَّ فيه،
وأمّا مع النص بخلافه فلا يجوز التخفيف بالمشقة)، وقد مرت بك عشرات النصوص التي
تحدد طول وعرض المسعى، فإذاً ثمة أحكام شرعية لا تخضع لهذه القواعد، وثمة أحكام
تخضع لهذه القواعد ضمن ضوابط حدّدها الشرع في كل مسألة، وسأضرب أمثلة لتوضيح
الفكرة، فحرمة شرب الخمر تخضع لقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، فإذا
غصّ شخص وأمامه كأس خمر جاز له شرب الخمر ولكن بشرط ألَّا يوجد بديلٌ لتفادي
المشكلة وبشرط أن يشرب بمقدار الضرورة فقط لا بمقدار ما يشتهي، وأمّا مثال الحكم
الذي لا يخضع لقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" فالوقوف بعرفات في
وقتٍ محدَّد لصحة الحج، فإنه لا يصح حج مَن لم يقف بعرفات في الوقت المحدّد مهما
كانت الضرورة ومهما كان سبب عدم الوقوف ومهما كان العذر، ولا توجد أيُّ ضرورة مهما
بلغتْ تجعل الحج صحيحاً لمن لم يقف بعرفات، ولو قرأنا التاريخ لوجدنا أنّ حاجة
الأمة لتوسيع أرض عرفات لِتَشمَل العالم الإسلامي أو توسيع زمن الوقوف بعرفات
ليشمل أياماً متطاولة كلُّ هذا تحتاجه الأمة حاجة عظيمة أكثرَ مِن توسعة المسعى،
وثمة الألوف المؤلفة من المسلمين المضطرين حقيقةً لهذا التوسيع، وسأكتفي بذكر مثال
واحد يبيّن مقدار الضرورة التي مرت على المسلمين والتي تلزمهم بتوسيع أيام عرفات
ومع هذا لم يبيحوا لأنفسهم توسيعها، لأنّ مقدار أرض عرفات وزمن الوقوف أمور
توقيفية فلا تُغيِّرها الضرورات مهما بلغت، فقد ذكر الرحالة ناصر خَسْرُو([57]) أنه عندما كان
واقفاً مع الحُجاج بأرض عرفات في يوم عرفة وصل 4 حجاج من أهل خراسان وهم مقيَّدون
على جِمال سريعة، فلما أُنزِلوا عنها لم يستطيعوا الوقوف ولا الكلام وكانوا نصفَ
أموات، وكانت قصتهم أنهم كانوا 6 حجاج وصلوا المدينة المنورة قبل يوم وقفة عرفات
بثلاثة أيام، فاستأجروا أعراباً معهم جِمال سريعة لِيُدركوا وقفة عرفات، فأوصلوهم
من المدينة المنورة إلى أرض عرفات في يومين ونصف، ومات منهم اثنان أثناء الطريق.
ولو قرأنا كتب
التاريخ لوجدنا أمثلة لا تعدّ ولا تحصى عن المشقة وأنواع العذاب وفنون الموت
والهلاك التي كان يتعرض لها الحجاج القادمون من بلاد خراسان وما وراءها وكذلك
الحجاج القادمون من بلاد المغرب والأندلس، ومع هذا لم يَتجرَّأ أيُّ عالم على
توسيع أو بناء عرفات ومطاف ومسعى جُدُد في بلاد المشرق أو بلاد المغرب، وأمّا أنتم
فقد وسعتم مِنى ووسعتم مَرمَى الجمرات، والآن توسعون المسعى، ولا ندري ماذا
ستوسعون بعد هذا بحجة الضرورة والتيسير وفهم مقاصد الشريعة!!
3. مرّتْ على
المسلمين فترات ضاق عليهم فيها السعي لدرجة الأذى والموت إمّا بسبب البيوت المقامة
في المسعى [كما كان قبل سنة 167هـ]
أو بسبب تعدي البعض على أرض المسعى وتضييقه [كما حصل عدة مرات، وسبق بيانه]
أو بسبب كثرة أعداد الحجاج [كما حصل في بعض العصور([58])] وعلى الرغم من الحاجة الماسة والضرورة الملحة
التي بلغت موتَ بعض الحجاج في هذه الفترات لتوسعة المسعى إلاّ أنه لم يُبِح أيُّ
خليفة أو عالم لنفسه أن يوسع المسعى، وذلك لإجماع المسلمين على عدم جواز التوسعة،
كما أنه لم يسعَ أيُّ مسلم خارج المسعى المعروف، وفي كل عصر عالج المسلمون
مشكلة ضيق المسعى إمّا بهدم البيوت المقامة في المسعى أو بإزالة التعدي على المسعى
أو ببناء طوابق لسعي الناس، فإذاً المسعى لا يخضع لقاعدة "الضرورات تبيح
المحظورات" وبقية القواعد التي ذكرتْ في الشبهة.
4. وأخيراً نقول:
إذا أردتم تطبيق قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" على المسعى، وتوسيع
المسعى للضرورة، فإننا نقول لكم: لو كان تطبيقكم للقاعدة صحيحاً فإنّ ضرورة توسيع
منى ومزدلفة وتوسيع مدة الوقوف بعرفات وتوسيع مدة رمي الجمار خارجَ أيام العيد كلّ
هذا يضطر إليه المسلمون أكثر من ضرورتهم لتوسعة المسعى، بل إنّ اختصار عدد أشواط
السعي إلى شوطين فقط أفضل من التوسعة، بل إنّ ضرورة بناء أكثر من كعبة يطاف حولها
في العالم الإسلامي ضرورة ملحة جداً أكثر من توسعة المسعى، ففي حج هذا العام وفي
صباح العيد مات أربعة حجاج اختناقاً من شدة زحام الطواف في الحرم، ولو نظرنا في
العالم الإسلامي لوجدنا أنّ أغلب المسلمين لا يستطيع الحج بسبب عدم اتساع أرض
الحرم لحج جميع المسلمين، والحل سهل ببناء كعبة ومسعى وعرفات في عدة أماكن لقاعدة
"الضرورات تبيح المحظورات"، ولكن هذا أمر يرفضه كلُّ مسلم([59]).
وإذا قال لنا
مبيحو توسعة المسعى: إنّ الحج فرض على القادر وأمّا غير القادر فلا يفترض
عليه الحج فلا داعي لبناء أكثر من كعبة، فنقول لهم: فلماذا لم تطبقوا هذا
الكلام الجميل على المسعى أيضاً فتسمحون لعدد معين من المسلمين بالحج بحسب ما يتسع
له المسعى مع طوابقه المتكررة؟
فالنتيجة من
الكلام أن نطالبكم بتطبيق قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" على المسعى
والكعبة وعرفات أو اعتماد الفقه الصحيح وهو أنّ هذه القاعدة لا تنطبق على
جميع الأحكام الشرعية وأنّ هذه القاعدة لها ضوابطها وليست مطيةً لتبرير شهواتنا
وأوامر المسؤولين عن شعائر ديننا.
-----
الشبهة
الخامسة:
قال مبيحو
التوسعة: (لا يوجد إجماع عملي محفوظ للأمة على أن المسعى محدد ومحصور وأنه
لا يجوز السعي في غير هذا المسعى المعروف).
الجواب: لقد سعى النبي r والصحابة والتابعون وجميع المسلمين حتى عام 1427هـ في مسعى محدد، ولم ينقل عن أي مسلم أنه سعى خارج هذا المسعى، فهل
في ديننا إجماع أوضح من هذا الإجماع؟! وقد استأنسنا أيضاً بحكاية عدة أئمة من عدة
عصور على أنّ الإجماع منعقد على أنّ المسعى هو المسعى المعهود المعروف، وكلُّ هذا
نقلناه بالتفصيل في مواضعه، بالإضافة إلى أنه لم يُنقَل عن أيّ مسلم واحد مهما
كانت عقيدته أو مذهبه أو ضلاله أنه سعى خارجَ المسعى المعروف، أفبعدَ كلِّ هذا
الإجماع يأتي مَن يقول لنا: إنه لا يوجد إجماع عملي محفوظ للأمة؟!
على أيّ حال
نردّ على قائل هذا القول بقولنا: إذاً لا يوجد في ديننا أيّ مسألة مجمع عليها،
ونقول: ما الدليل أنّ الكعبة هي نفسها التي نراها الآن؟ وما الدليل أنّ منى لم تكن
أوسع مما هي عليه الآن بعشر مرات؟ وما الدليل على أنه لا توجد كعبة ثانية في اليمن
أو دمشق؟ كلُّ هذه الأسئلة وأمثالها لا جواب عليه إلاّ أن يقال بأنّ الإجماع على
بطلان هذا الكلام، فإن رفضنا الإجماع في مثل هذه المسائل فقد ضاع ديننا ولم يبق
منه شيء، أفهذا حال ديننا؟!!
-----
الشبهة
السادسة:
قال مبيحو
التوسعة: (لقد كان المسعى في عهد النبي r عريضاً واسعاً، ثم ضيقه الناس، ونحن الآن سنعيد
توسعته لِمَا كان عليه في زمن النبي r، والدليل أنه كان عريضاً واسعاً الحديث الذي أخرجه ابن
أبي شيبة في مصنفه 4/335 عن عثمان بن الأسود قال: رأيت مجاهداً وعطاءً يسعيان من
خوخة ابن عَبّاد إلى زُقاق بني أبي حسين، فقلت لمجاهد، فقال: هذا بطن المسيل
الأول، ولكن الناس انتقصوا منه.
وقال الحافظ
ابن كثير في البداية والنهاية 5/179: وقال بعض
العلماء: ما بين هذه الأميال أوسع من بطن المسيل الذي رَمَلَ فيه النبي r ).
الجواب: بالنسبة للحديث
الشريف فإنّ هذا الحديث يتكلم عن مسألة مختلفة عن موضوع بحثنا، فبحثنا هو عرض
المسعى، أمّا هذا الحديث فيتكلم عن المسافة التي نهرول فيها طولاً وهي ما بين
الميلين الأخضرين، فكلمة (يسعى) استُعملتْ في عشرات الأحاديث بمعنى السعي بين
الصفا والمروة واستعملت في عشرات الأحاديث بمعنى الهرولة بين الميلين الأخضرين
فقط، وهذا الحديث يتكلم عن الهرولة؛ لأنّ ما بين خَوخَة ابن عباد إلى زقاق بني أبي
حسين هو مكان الهرولة كما سبق بيانه في الفصل الثالث، وأظن أنّ أول شيخ أحضر هذا
الحديث كشاهد على مسألة عرض المسعى لا يخلو من قصد سيِّئ؛ لأننا لو رجعنا لمصنف
ابن أبي شيبة لرأينا أنه جعل باباً كاملاً لبيان مسألة الهرولة بين الميلين وأورد
فيه تسعة أحاديث منها هذا الحديث، ومِن هذه الأحاديث أيضاً: "أنّ رسول الله r كان يسعى في
بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة" [أخرجه الشيخان أيضاً]، فالحديث واضح
جداً أنه يتكلم عن مسألة مختلفة عن موضوع بحثنا ومع هذا أورده ليأخذ منه فكرة
إعادة توسعة المسعى، ثم تناقله كثيرٌ مِن المشايخ المبيحين للتوسعة دون علم.
وأمّا كلام
الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فإنه يتكلم أيضاً عن موضوع الرَّمَل بين
الميلين الأخضرين طولاً، ولم يتعرض أبداً لموضوع عرض المسعى، وليرجع القارئ الكريم
إلى كتاب ابن كثير ليقرأ الكلام كاملاً، وليعلم مدى التدليس في نقل العبارات
الموهمة أنّ المسعى كان عريضاً ثم ضيقه الناس والآن سيعيدون تعريضه، ولا يخفى
علينا أنّ ثمة مسألة أخرى هي أنّ عرض مكان الرمل فقط والذي يسمى مسعى أيضاً ربما
كان أعرض إلى الجهة الغربية فقط مما هو عليه الآن، وهذه مسألة مختلفة عن موضوع
بحثنا في ردّ هذه الشبهة.
استطراد: أجد لزاماً
علي أن ألخص بكلماتٍ الموضوعَ الذي ذكره ابنُ أبي شيبة في مصنفه وابنُ كثير في
البداية والنهاية وكذلك ذكره الفقهاء في كتبهم، لأنّ بعض المبيحين للتوسعة اقتطع
كلام بعض الفقهاء ليوهم الناسَ أنّ عرض المسعى كاملاً تغير، والمسألة باختصار هي
تحديد مكان بداية الهرولة، فقد كانت محدَّدة بالميل الأخضر الذي من جهة الصفا، ثم
إنّ السَّيل كان يهدم الميل الأخضر من جهة الصفا فيعيدونه، ثم إنهم رفعوه ووضعوه
على أعلى ركن المسجد، وهذا الموضع متأخر عن موضعه الأصلي بستة أذرع، وسمَّوه
العَلَم المعلَّق، وأمّا الميل الأخضر الثاني فإنه محفوظ لأنه موضوع على دار
العباس، فلذلك ترد قصصٌ وأقوالٌ بأنّ السعي محصور فيما بين الميلين الأخضرين، وترد
أقوال بأنّ السعي يبدأ قبل العَلَم المعلَّق بستة أذرع، فكما ترى كلا المكانين
واحد، ولكن النقول الأولى كانت قبل نقل مكان العلم الأخضر والنقول الثانية بعد نقل
مكان العلم الأخضر، والمشكلة ظهرت عند عوام الساعين فإنهم لا يعرفون هذا
فقصروا مسافة الهرولة ستة أذرع لأنهم يهرولون ما بين العلم المعلق والعلم الثاني
فقط، فلذلك كان العلماء يحذرون الناس من تقصيرهم وتنقيصهم مكان الهرولة، وللتوسع
في هذه المسألة راجع حاشية رد المحتار 8/256، وحاشية الجمل 9/217، والمغني لابن قدامة 5/236.
وكذلك ثمة
مسألة ثانية هي أنّ ما بين الميلين الأخضرين يصح فيها أن يهرول الساعي ويصح أن
يمشي، وقد ورد كلا الحالين عن النبي r، ولكن أغلب الأحوال أنّ النبي r هرول فلذلك
كان حكم الهرولة سنة وليس واجباً.
-----
الشبهة
السابعة:
قال مبيحو
التوسعة: (قال الله تعالى: ]فلا جناح عليه أن يطوف بهما[ ولم يقل: بينهما، فإذاً لا يجب السعي بينهما بل
المهم أن يمر بهما ولو خرج عما بينهما).
الجواب: إنّ المراد بقوله تعالى: ]بهما[ أي: بينهما، ولكنه عبّر بهذا التعبير لنكتٍ بلاغية
جميلة لن أتعرض لها([60])، إنما سأكتفي ببيان أنّ المراد من الآية السعي بين
الصفا والمروة، قال الإمام مقاتل في تفسيره 1/98: (] فلا جناح عليه أن يطوف بهما[ يقول: لا حرج عليه أن يطوف بينهما، لقولهم: إنّ علينا
حرجاً في الطواف بينهما)، وأخرج الشيخان عن أم المؤمنين السيدة عائشة t قالت: (لَعَمري ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف
بين الصفا والمروة). إلى غير هذا من النصوص التي لا تعد ولا تحصى.
-----
الشبهة
الثامنة:
قال مبيحو
التوسعة: (توجد أحاديث صحيحة وقصص صريحة تدل على أن الصفا جبل متسع وكبير جداً،
لذلك يمكن توسعة المسعى قدر ما شئنا، فقد أخرج الشيخان([61]) عن ابن عباس t قال: لما نزلت ]وأنذر عشيرتك الأقربين[ [الشعراء 214] ورَهْطَكَ منهم المخلَصين خرج رسول الله r حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: مَن هذا؟
فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سَفْح هذا الجبل أكنتم
مصدقي؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال
أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلاّ لهذا، ثم قام، فنزلت: ]تبت يدا أبي لهب وتب[ [المسد1]. فبما أن
جيشاً كاملاً يمكن أن يأتي من أعلى جبل الصفا فلا بد أن يكون هذا الجبل كبيراً
وواسعاً وعريضاً جداً ليتسع لهذا الجيش، فإذاً جبل الصفا في عهد النبي r كان عريضاً ومرتفعاً أي كان جبلاً كبيراً، وكذلك الحديث
في صحيح مسلم برقم (1780) أن النبي r قال للأنصار قبيل فتح مكة: " احصدوهم حصداً حتى
توافوني بالصفا "، فبما أن النبي r واعد الأنصار عند الصفا فإذاً جبل الصفا كبير جداً حتى
اتسع لكل الأنصار).
الجواب: سأجيب عن كلِّ حديث على حِدَة، أمّا الحديث
الأول: فإنّ الذين أوردوا هذا الدليل ظنوا
كما يظن عوام الناس أنّ سفح الجبل هو أعلاه، وشرحوا الحديث بناء على جهلهم باللغة
العربية([62])، والحقيقة أنّ سَفْح الجبل هو أسفله،
قال في الصَّحاح مادة (سفح): (سَفْحُ الجبل: أسفلُه حيثُ يَسْفَح فيه الماءُ، وهو
مُضْطَجَعُهُ)، وهذا المعنى موجود في جميع المعاجم، وقال ابن حجر في مقدمة الفتح 1/129:
(سفح الجبل: أي: عرضه من أسفله)، وهذا المعنى مذكور في جميع شروح الحديث، ولذلك
وردت لفظة (الوادي) بدل لفظة (سفح الجبل) في صحيح البخاري برقم (4492)
بلفظ: "لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد ...."، ومعروف أنّ مكة كلها
جبال وأودية بين هذه الجبال، فالنبي r
يسأل أهل مكة: هل تصدقوني لو أخبرتكم أنّ جيشاً سيأتي من أسفل هذا الجبل؟ فهل في
هذا الكلام أيُّ دليل على أنّ الجبل الذي وقف عليه النبي r
هو جبل كبير؟! ثم مَن قال لكم أيها المبيحون بأنّ مراد النبي r
بقوله: "هذا الجبل" هو الصفا؟ فإنّ النبي r
لم يكن يسمي الصفا (جبل الصفا) كما هو مشهور في زماننا، ولو بحثت في جميع الأحاديث
النبوية فلن تجد لفظة (جبل الصفا) أبداً، وعموماً فإني قرأت جميع شروح الحديث فلم
أجد مَن نصّ على اسم الجبل المراد مِن قوله r:
"سفح هذا الجبل"، وإذا درسنا تضاريس مكة ثم قرأنا جميع روايات
الحديث فسنعلم أنّ النبي r
وقف على الصفا وخلفَه جبل أبي قُبَيس ومواجهه جبل قُعَيْقِعان، ومدخل الجيش لمكة
إمّا أن يكون بالوادي بين جبلي أبي قُبَيس وقُعَيْقِعان، وهذا هو مدخل جيش النبي r
يوم فتح مكة، وإمّا أن يكون بالوادي الذي بسفح قُعَيْقِعان والذي دخل منه جيش خالد
بن الوليد يوم فتح مكة، فإذاً المراد بهذا الجبل هو إمّا جبل أبي قُبَيس أو جبل
قُعَيْقِعان، ولا يصح أن يراد به الصفا.
وعلى أيّ حال نرجع فنقول: الحديث لا
علاقة له بموضوع عرض المسعى، ولكنكم أيها المبيحون جهلتم معنى كلمة (سفح) في
الحديث بل فسرتموها عكس معناها فأوصلكم جهلهم المركب إلى تصور يخالف الواقع.
وأمّا ردُّنا على الاستدلال بالحديث
الثاني فنقول: لقد واعد النبي r
الأنصار عند الصفا، فاجتمعوا هناك، فهل في هذا الكلام ما يُفهَم منه أنّ جميع
الأنصار وقفوا ضمن الصفا فقط؟ فاستنتجتم أنّ الصفا واسعة على الرغم مِن أنكم لا
تعرفون عدد الأنصار الموجودين، وعلى الرغم من أنّ المسعى لم يكن وقتها مبنياً بل
كان أرضاً مفتوحة مِن كلِّ الجهات؟
وبعد الإجابة عن الحديثين أقول: عجباً
من المشايخ الذين ذكروا مثل هذا الدليل، وفهموه بحسب فهمهم السقيم وعلمهم العامي،
ثم أرادوا منا أن نترك عشرات النصوص الصريحة في ضبط مساحة الصفا، ولم أكن مريداً
لذكر هذا الدليل بين أدلة مبيحي التوسعة، ولكني وجدت أنّ عدة مشايخ قد ذكروه وطبعتْ
كتبهم بآلاف النسخ، ووُضِع ملخص كلامهم في عدة جرائد سعودية تطبع منها الآلاف
المؤلفة من النسخ، ووضع كلامهم في كثير من مواقع الإنترنت واطلع عليه ما لا يعلمه
إلاّ الله من المسلمين، فلذلك ذكرتُ هذا الدليل وبينتُ أنه لا علاقة للحديثين
الشريفين بموضوعنا ولكنه لَيُّ عُنُق النصوص مع جهلٍ مركَّب.
-----
الشبهة التاسعة:
قال مبيحو التوسعة: (لا يوجد نص عن
النبي r
ولا عن أحد من العلماء يحدد عرض المسعى، فإذاً نستطيع تعريضه كما نحب).
الجواب: أمّا عدم وجود نص عن النبي r يحدد عرض المسعى فهل تظنون أنّ النص يعني الحديث القولي
فقط أم إنّ النص هو أيُّ حديث قولاً أو فعلاً أو تقريراً؟ فإن قلتم [كما هو
الحق]: إنّ النص هو أي حديث قولاً أو فعلاً أو تقريراً فنقول لكم: جاءت نصوص
كثيرة تثبت طول وعرض المسعى وسبق بيانها في الفصول السابقة، وإن قلتم نريد نصاً
يقول فيه النبي r بأنّ عرض المسعى كذا ولا يصح الزيادة عليه، فنقول لكم:
لا يوجد نص حديث قوليٍّ بهذا اللفظ، وسنقول لكم: ولا يوجد نصٌّ قوليٌّ يحدد أبعاد
الكعبة فإذاً يجوز الزيادة بمساحتها، ولا يوجد نص قولي يمنعنا من بناء كعبة ومسعى
وعرفات في كل بلد إسلامي، فهل يقول بهذا القول مسلمٌ فضلاً عن مشايخ بل علماء
و"دكاترة" ؟!
وأمّا قولكم:
(لا يوجد نص عن العلماء يحدد عرض المسعى) فقد أوردنا في هذا الكتاب عشرات النصوص
في تحديد عرض المسعى، ولكننا نقول لكم: إن كنتم قرأتم ولو كتاباً واحداً [مهما كان
عِلمه وزمنُ تأليفه] يتكلم عن عرض المسعى فستقرؤون فيه تحديد عرض المسعى بالأذرع
أو بالأمتار أو بالمعروف المتواتر المشاهَد، وحينئذ سنقول لكم: لقد عرفتم
فحرفتم وهذا ضلال بعيد، وإن كنتم لم تقرؤوا أيَّ كتاب يتحدث عن عرض المسعى
على كثرتها فلماذا تتصدرون للإفتاء؟ ولماذا يُعرَّف بكم على أنكم علماء فضلاء
"دكاترة" متخصصون ولكم مؤلفات منشورة بعدة لغات؟! إنّ هذا تدليس وتغرير
وغش.
-----
الشبهة العاشرة:
قال مبيحو التوسعة: (إن اتصال الشيء
بالشيء يعطيه حكمه في الشريعة كما في اتصال الصفوف في الجماعة خارج المسجد، وكما
قرره الفقهاء عند الازدحام والطواف تحت السقائف، ولذا فإن من قواعد الفقه أن ما
قارب الشيء أعطي حكمه، والقاعدة تقول: للزيادة حكم المزيد، وأن الزيادة المتصلة
تتبع أصلها).
الجواب: إن كان كلامكم هذا صحيحاً فتعالَوا بنا
لنوسع منى لتشمل كلَّ مكة وبهذا يُحقِّق الحجاج المبيت بمنى وهم في سكنهم بمكة، بل
الأفضل أن نوسع عرفات وغيرها لتشمل كلَّ العالم الإسلامي وبهذا تنتهي جميع مشاكل
الحجاج في كل العالم، هل يوجد مسلم يقول مثل هذا الكلام؟! إذاً فالطريق الذي
سلكتموه لفهم قواعد الفقه طريق خاطئ، لأنه أوصلنا لنتائج غريبة منكَرة.
هذا الردُّ يفهمه جميع الناس، أمّا لو
أردنا الردّ بشكل أفضل فنقول: إنّ هذه القواعد لها شروط وضوابط لتطبيقها، ولا تطبق
على كل مسألة، فمثلاً: لو بنى جارُك بيتاً في أرضه، ثم أراد توسيع بيته على أرضك
لأنّ القاعدة تقول: "للزيادة حكم المزيد" و"الزيادة المتصلة تتبع
أصلها"، فهل ستسمح له؟! وكذلك لو وقف إنسان بجانب نجاسة فهل يتنجس لأنّ
القاعدة تقول: "ما قارب الشيء أعطي حكمه"؟! إذاً فهذه القواعد الفقهية
لها ضوابطها وشروطها، وأول وأهم ضابط لهذه القواعد هو أنّ الأمور التعبدية لا تدخل
تحت هذه القواعد، فمن المعلوم والمعروف لدى جميع طلاب العلم أنّ جميع المذاهب
تقول: الأمور التعبدية لا تخضع للقياس.
وأمّا صحة الجماعة باتصال الصفوف خارجَ
المسجد فهذا الحكم لم يخضع لهذه القواعد، إنما لأنّ النبي r
قال: "إنما جُعل الإمامُ ليُؤتم به"([63]) فصحة الاقتداء مرتبطة بالإمام وليست
مرتبطة بالمسجد، لذلك تصح الجماعة ولو امتدتْ إلى خارج المسجد، وأمّا بالنسبة
للطواف فإنه لو امتدتْ صفوف الطائفين إلى خارج المسجد الحرام فلا يصحُ طواف الطائف
خارجَ المسجد بإجماع الأمة([64])، لأنّ الطواف يشترط فيه أن يكون في
المسجد، أمّا لو وسعنا المسجد الحرام فإنه يصح الطواف بالتوسعة، وهذا أمر فَعَلَه
المسلمون من عهد الصحابة إلى عصرنا، فكلُّ هذه الأحكام عَرَفَها المسلمون لوجود
نصوصٍ شرعية بها وليس لأنّ المسلمين أخضعوها لقواعد القياس كما تقولون.
-----
الشبهة الحادية عشرة:
قال مبيحو التوسعة: (إذا اختلف العلماء
فيجوز لنا اتباع أي عالم وخاصة إذا كان في اتباع أحد الرأيين مصلحة للمسلمين، وهنا
قد اختلف العلماء في حكم توسعة المسعى فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه ومنهم من جعله
فرضاً، ولكل دليله وحكمه، فيجوز لنا أن نأخذ بأي القولين خاصة أن مصلحة المسلمين
في إباحة السعي في المسعى الجديد).
الجواب: إن كان كلامكم صحيحاً فهذا يُلزمُكم
إباحة كثير مما حرَّمه الله؛ لأنّ جميع الناس صاروا يعلمون أنّ أيّ مسألة تريد أن
تسمع إباحتها مهما كانت فاحشةً أو منكَرة أو تخالف الإجماعَ فما عليك إلاّ أن
تُقلِّب قنوات "الدش" لتجد عدة قنوات تستضيف مَن تصفهم بالعلماء يُبيحون
لك أكثرَ مما تطلبه منهم.
فإذاً ليس كلُّ مَن ادعى العلم أصبح
عالماً يُعتبَرُ رأيه في الشريعة، فلِوَصف الشخص بأنه عالم أو فقيه أو محدِّث أو
مجتهد ونحوها شروطٌ وصفات ينبغي أن يتحلى بها هذا الشخص مِن حيث عِلمُه ودينه،
وكذلك ليس كلُّ خلافٍ معتبراً، فالشاذُّ لا حكم له، والنبي r
يقول: " ومَن شذَّ شذَّ إلى النار " ([65])، بل لو صار مبيحو التوسعة أكثرَ الأمة
لَمَا جاز اتباعهم لأنهم خالفوا إجماع الأمة حتى سنة 1428هـ،
ولأنّ النبي r
أخبرنا أنّ الأمة ستبيح ما حرمه الله بقوله r:
" لَيكوننّ في أمتي أقوام يَستحلُّون الحرير والخمر
والمعازف " ([66])، لذلك فلا يجوز لنا تقليد مَن أباح
توسعة المسعى، ولا يُعتبَر خلافه لأنه خالف عشرات النصوص.
-----
الشبهة الثانية عشرة:
قال مبيحو التوسعة: ( كما يجوز توسعة
المطاف للطائفين فكذلك يجوز توسعة السعي للساعين ).
الجواب: لا يصح قياس السعي على الطواف، فالمطاف
مسجدٌ وقد وردت النصوصُ الكثيرة بالترغيب ببناء وتوسعة المساجد، وقد وسع الصحابة
ومَن بعدهم المسجد الحرام وغيره دون نكير من أحدٍ، فكان إجماعاً على صحة توسعة
المطاف وصحة الطواف بتوسعة المسجد الحرام([67])، أمّا المسعى فيَختلف عن المطاف في
كلِّ هذه الأمور وفي غيرها أيضاً، فلا يصح تشبيه وقياس توسعة المسعى بتوسعة
المطاف، ومَثَلُكم كمَثل مَن قاس البيض على الباذنجان في القصة المشهورة.
-----
الشبهة
الثالثة عشرة:
قال مبيحو
التوسعة: (ذكر الأزرقي في أخبار مكة 2/332 عن جده أن الخليفة المهدي لما وسع المسجد ضم إليه المسعى الذي سعى فيه
النبي r وبنى مسعى جديداً وصار المسلمون يسعون فيه وقال جده:
وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم([68])، والآن يمكن بناء مسعى جديد ويسعى المسلمون فيه كما فعل
سابقاً).
الجواب: لقد قلتم هذا الكلام بناءً على فهمكم لظاهر كلام جد
الأزرقي، ولكن ظاهر كلام جدّ الأزرقي غير مراد قطعاً، وسأورد ثلاثة أجوبة بحيث
يظهر بوضوح مِن كل جوابٍ أنّ ظاهر كلام جد الأزرقي غير مراد:
الجواب
الأول: إنّ معنى كلام
الأزرقي إذا فهمناه على ظاهره فإنّ الواقع المشاهَد حتى في يومنا هذا يخالفه ويدل
على خطأ هذا الفهم الظاهر، ولبيان هذا الكلام أرجو من القارئ الكريم أن يشاهد الصور
مع شرحها في الفيديو: (https://youtu.be/Hu03r15AdvQ )، فالنتيجة أن نقول: كيف يصح ظاهرُ قول الأزرقي
بأنّ المسعى ضُمّ إلى المسجد مع علمنا يقيناً بأنّ أغلب هذا المسعى المزعوم لم
يُضَمّ إلى المسجد حتى ما قبل 50 سنة؟ كما ونشاهد جميعاً أنّ قرابة نصف هذا المسعى المزعوم لم يضم للمسجد
حتى في يومنا هذا، فإذاً ظاهر كلام الأزرقي غير مراد كما نرى بأعيننا.
الجواب
الثاني: يمكن أن نبين
خطأ ظاهر كلام الأزرقي بما يلي أيضاً: إنّ الصفا والمروة بقيا ظاهرين واضحَا
المعالم وضوحاً كاملاً ومحدَّدَين بعلامات واضحة منذ عصر النبي r وحتى ما قبل العهد السعودي، وهذا أمر منقول إلينا
بالتواتر كما تبين لك، ولدينا صور "فتوغرافية" لهما كما سبق،
ولم تطمس معالم الصفا والمروة إلاّ في العهد السعودي بسبب بناء المسعى الضخم
عليهما، فهل نقبل بعد هذا أن يقال إنّ المسعى كان داخل المسجد الحرام، ومعنى هذا
أنّ الصفا والمروة كانتا في غير موضعهما اليوم، فهل يعقل هذا؟!
الجواب
الثالث: يمكن أن نبين
خطأ ظاهر كلام الأزرقي بما يلي أيضاً: إنّ هذا الموضوع يهم جميع المسلمين وعلى مرّ
العصور واستغرقتْ حادثة توسعة المهدي للحرم عدة سنوات وبتكلفة بلغت عدة أطنان من
الذهب ثم بعد هذا لا يَروي أهمَّ حدث في هذه التوسعة إلاّ جدُّ الأزرقي فقط؟!
وخاصة إذا علمنا أنه في زمن توسعة المهدي كان كثير من الأئمة مثل الإمام مالك بن
أنس والإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن وكذلك مَن جاء بعدهم مثل الإمام الشافعي([69]) والإمام أحمد بن حنبل وكل هؤلاء الأئمة معروفون ببيانهم
للحق ومدوَّن في مذاهبهم جميعاً عدمُ جواز السعي خارج المسعى الذي سعى فيه
النبي r كما سبق بيانه في الفصل الثاني، فكيف نقبل بعد هذا كله
أنّ المسعى تغير مكانه وكلُّ هؤلاء الأئمة سكتوا؟! بل كيف نقبل أنّ مِثل هذا الحدث
العظيم قد جرى ولم ينقله جميع علماء التاريخ؟! بل إنّ جميع العلماء المتأخرين عن
الأزرقي إمّا أن يُعرضوا عن كلامه هذا أو أن يذكروه لتنبيه قارئه على عدم إرادة
ظاهره، كلُّ هذا يدل قطعاً أنّ ظاهر العبارة غير مراد.
والآن
بعد أن عرفنا أنّ ظاهر عبارة الأزرقي غير مراده قطعاً فإذاً كيف نفهم عبارة
الأزرقي؟
الجواب أنّ العلماء شرحوا هذه العبارة بطريقتين:
الطريقة الأولى: أنّ الأزرقي أراد بكلمة المسعى مكان الهرولة، واستعمالُ اسم المسعى على
مكان الهرولة وردَ في عشرات الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، واستعمله
الأزرقي نفسه كثيراً، فيكون معنى كلام الأزرقي أنّ مكان الهرولة مِن المسعى كان
أعرضَ مِن بقية المسعى، فضَمّ المهدي العرض الزائد إلى المسجد وأبقى مكان الهرولة
المسامت لبقية المسعى فيما بين الصفا والمروة، وبذلك تغير موضع الهرولة من المكان
الذي ضمه للمسجد إلى المكان المتبقي مما هو كائن بين الصفا والمروة لم يَخرج
عن البينية بينهما، وهذا التغيير لمكان السعي لا إشكال فيه عند جميع الأمة
لأنّ المسعى ما يزال بينَ الصفا والمروة، وممن قال بهذا الشرح لكلام الأزرقي
الإمامُ القطبي في كتاب الإعلام ص138 قال: (ولعلّ
الجواب عن ذلك أنّ المسعى([70]) في عهد رسول الله r كان عريضاً، وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى
القديم، فهدمها المهدي، وأدخلَ بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم
يحوّل تحويلاً كليًّا، وإلاّ لأنكره علماء الدين)، والإمام الفاسي في شفاء الغرام 1/520 قال: (وذكر الأزرقي ما يقتضي أنّ موضع السعي فيما بين الميل الذي بالمنارة
والميل المقابل له لم يكن مسعى إلاّ في خلافة المهدي العباسي بتغيير موضع السعي في
هذه الجهة وإدخاله في المسجد الحرام في توسعة المهدي له ثانياً)، ثم ذكر الإمام
الفاسي أنّ الأمة مجمعة على صحة السعي مما يدل على أنّ المهدي لم يخرج عن المسعى
الصحيح.
الطريقة الثانية: أنّ بعض العلماء لم يُحدِّد مراد الأزرقي من كلامه هذا، إنما اكتفى بتنبيه
القارئ ألَّا يَتوهّم خلافَ ما تواتر عن النبي r بسبب عبارة الأزرقي، ومِن هؤلاء الإمامُ الرّملي في
نهاية المحتاج 3/291 حيث قال: (وهو المسعى المعروف الآن وإن كان في كلام
الأزرقي ما يوهم خلافه)، وقال مُلاّ علي قاري في مرقاة المفاتيح 5/501: (والمسعى: هو المكان المعروف اليوم لإجماع السلف والخلف عليه كابراً عن
كابر، ولا ينافيه كلام الأزرقي([71])).
وفي
نهاية الردّ على هذه الشبهة نقول: أيًّا ما يكون معنى كلام الأزرقي ومراده فإنّ جميع الكلام حول هذه المسألة
ينحصر في الجهة الغربية للمسعى، والكلُّ متفق ظاهراً وباطناً على أنّ الأرض مِن
الجهة الشرقية للمسعى هي خارجَ المسعى، وهذه لا خلاف فيها، لا خلافاً لفظياً ولا
خلافاً حقيقيًّا، وأنتم بَنَيتم المسعى الجديد من الجهة الشرقية، وبذلك خالفتم
إجماعَ الأمة بلا أيِّ نقلٍ عن أيِّ مسلمٍ في أيِّ عصرٍ.
-----
وفي
ختام هذا الفصل أقول لك أيها القارئ الكريم: لقد أوردتُ جميع الشبه التي يَحتجّ بها مبيحو التوسعة، وعلى
فرض أنّ القارئ الكريم وجد شبهةً لم أوردها ضمن هذه الشبه فما عليه إلاّ أن يرجع
ويقرأ الكتاب بتمعّن وسيجد الردَّ واضحاً ومكرراً بأوجه مختلفة وبوضوح.
وأرجو من
القارئ الكريم ألَّا يغترَّ بكثرة الشُّبَه وكثرة القائلين بها، فكلُّ هذه
الشبه لا تُضعف الحقَّ ولا تغيرّه، فمثلاً: ما أكثرَ الشبه التي تدل على عدم
وجود الله تعالى وما أكثرَ القائلين بها، ولكنّ كلَّ هذه الشبه لا تغير حقيقة
أنّ أعرف المعارف هو الله I، اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
********************
الفصل
السادس: أدلة مبسَّطة على حرمة توسعة المسعى
سأسرد الآن
أدلةً مُبسَّطة يَفهمها الكبير والصغير والعالم والأمي تدلُّ على بطلان جميع كلام
مبيحي توسعة المسعى:
ü
قَبل عام 1428هـ كان جميع العلماء والمشايخ ودُور الفتوى إذا سألتهم: هل يجوز السعي
خارجَ المسعى إذا اضطررت للسعي خارجه؟ فسيقول لك الجميع: لا يجوز، ولا يصح السعي.
وأمّا الآن فأصبح بعض المشايخ يفتون بصحة السعي في المسعى الجديد، فما الذي تغير؟
الجواب: إن الذي تغير هو أنّ المسؤولين أمروا بتوسعة
المسعى.
ü
إذا سألت أغلب المشايخ الذين أباحوا توسعة المسعى: هل
يصح السعي خارج المسعى القديم والجديد؟ فسيقولون: لا يصح، فتذكر – أخي القارئ –
أنه إن طال بك العمر وبقي حال حكام ومشايخ الفضائيات على حالهم الآن وأمر القائمون
على المسعى وقتَها بتوسعة ثانية جديدة للمسعى، فسيفتي بعض مشايخ الفضائيات بإباحة
السعي في المسعى الثالث الجديد، وأسأل الله تعالى أن يصلح حكام العرب والمسلمين
ومشايخهم وشعوبهم وحينئذ سترى أنّ جميع المشايخ سيفتون بعدم صحة السعي إلاّ في
مسعى النبي r .
ü
إنّ مِن أدلة بطلان قول إباحة توسعة المسعى أنّ المبيحين
للتوسعة لم يعثروا في جميع المراجع التاريخية والشرعية والفقهية والحديثية
وغيرها ولا على نصٍّ واحد فقط عن أيِّ عالم سابق يجيز فيه توسعة المسعى، وكذلك لم
يعثروا ولا على أيِّ نقلٍ عن أيِّ عالمٍ سابق أو أيِّ مسلم أنه سعى خارج حد المسعى
المعروف.
ü
مِن الأدلة على بطلان قول مَن قال بجواز توسعة المسعى
أنهم عرضوا المسألة على هيئة كبار العلماء فأصدرتْ قرارها بعدم جواز توسعة المسعى([72])، ثم لم يعرضوا المسألة على أيّ مجمع علمي لا في
المملكة ولا خارجها؛ لأنهم يعلمون الجواب على الرغم من الأهمية الكبيرة لهذه
المسألة، حتى إنهم لم يسألوا رابطة العالم الإسلامي الموجودة في مكة المكرمة
والتي فيها عالم من كل دولة إسلامية.
ü
مِن الأدلة على بطلان قول المبيحين لتوسعة المسعى دليلٌ
يدركه عامة الناس وهو أنّ العاصي يعلم بفطرته وبقرارة نفسه أنه عاص، لذلك عندما
أرادوا توسعة المسعى بحجة التيسير على الناس بَنَوا المسعى الجديد بحيث تصعد
ارتفاعاً على ما يشبه الصفا الجديد وارتفاعاً قاسياً على ما يشبه المروة الجديدة،
وهذا يخالف قصدهم التيسير على الساعين، ولكن بنوا هذين الارتفاعين كي يوهموا الناس
أنهم يسعون بين الجبلين كما في مسعى النبي r، ولو أنهم علموا بقرارة أنفسهم أنّ عملهم سليم صحيح
يُرضي الله حقًّا لجعلوا مسعى النبي r مستوياً وجعلوا توسعة المسعى كذلك مستوية، فهذا أيسر
للناس.
********************
الفصل
السابع: ما حكم عمرة أو حج مَن سعى في المسعى الجديد؟
الجواب: يجب السعي كاملاً في مسعى النبي r، وأمّا مَن سعى خطوة واحدة خارج مسعى النبي r فتعالوا بنا لنسأل العلماء عن حكم حجه وعمرته:
1. قالت السيدة عائشة t: "ما أَتَمَّ الله حجَّ امرئٍ
ولا عمرته ما لم يَطُفْ بين الصفا والمروة " ([73])
2. قال الإمام النووي في المجموع 8/76: (السعي ركنٌ من أركان الحج، لا يتمّ الحج إلا به،
ولا يُجبر بدم، ولا يفوت ما دام صاحبه حيًّا، فلو بقي منه مرة من السعي أو خطوة
لم يصح حجُّه ولم يتحلل من إحرامه حتى يأتي بما بقي، ولا يحلُّ له النساء وإن طال ذلك سنين).
3. قال الإمام الخطيب الشُّربيني في مغني المحتاج 1/493: (فلو عَدَل عن موضع السعي إلى طريقٍ
آخرَ في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا لم تحسب له تلك المرة).
4. قال الإمام الحطّاب المالكي في مواهب الجليل 8/35: (إنَّ مَن تَرَكَ مِن السَّعي شيئاً
ولو ذراعاً يَرجِعُ له مِن بلده).
5. قال الإمام ابن
قُدامة الحنبلي في الشرح الكبير 3/405: (فإن ترك مما بينهما شيئاً ولو ذراعاً
لم يُجزه حتى يأتي به).
6. قالوا في الموسوعة
الفقهية الكويتية 17/53: (ذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ السّعي
ركن من أركان الحجّ لا يصحّ بدونه، حتّى لو ترك الحاجّ خطوة منه يؤمر بأن
يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه، ويخطو تلك الخطوة. وهو قول عائشة وعروة بن
الزّبير. وذهب الحنفيّة إلى أنّ السّعي واجب في الحجّ وليس بركن، وهو مذهب الحسن
البصريّ وسفيان الثّوريّ. وركن السّعي عند الجمهور سبعة أشواط، حتّى لو ترك شيئاً
منها لم يتحلّل من إحرامه، أمّا الحنفيّة فإنّ ركن السّعي أكثر أشواط السّعي([74])، والثّلاثة الباقية ليست ركناً، وتنجبر
بالفداء).
7. وثمة قولٌ شاذٌّ بأنّ السعي سنة مِن سنن الحج والعمرة، وهذا القول غيرُ
مفتىً به في جميع المذاهب، وممن روي عنهم هذا القول سيدنا عروة بن الزبير t، ولكن
الناقلين لقوله لا يذكرون أنه عندما أفتى بسُنية السعي كان صغيراً وأنّ
السيدة عائشة t صححت له هذا
الخطأ، والقصة كاملة أخرجها البخاري برقم (1698) قال: عن هشام بن عروة عن أبيه أنه
قال: (قلتُ لعائشة t زوج
النبي r وأنا يومئذ
حديث السن: أرأيتِ قولَ الله تبارك وتعالى ]إن الصفا
والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما[ [البقرة158]، فلا أرى على أحد شيئاً ألَّا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلاَّ، لو كانت كما تقول كانت: فلا
جناح عليه ألَّا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في
الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين
الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله r عن ذلك فأنزل الله تعالى: ]إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح
عليه أن يطوف بهما[)، زاد سفيان وأبو معاوية عن هشام: (ما
أتمّ الله حجَّ امرئٍ ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة).
وعلى
فرض أنّ بعض الحجاج أو المعتمرين سيأخذ بهذا القول الشاذ والمخالف لإجماع الأمة
ويقول: (سأسعى في المسعى الجديد، فإن صَحَّ سعيي فهذا المراد وإن لم يصحَّ
سعيي فلا إشكال على هذا القول الشاذ) فنقول له:
أولاً:
يحرم الأخذ بالقول الشاذ لقول النبي r:
"ومَن شذّ شذّ إلى النار " ([75]) ولغيره من الأدلة المبسوطة في مواضعها
من كتب أئمة الدين.
ثانياً:
على فرض أنك ستأخذ بهذا القول فيجب عليك إذاً ألَّا
تسعى أبداً، أمّا أنْ تسعى في المسعى
الجديد فهذا حرام ولا يجوز، لأنه سعيٌ على وجه العبادة، وهذا إحداثٌ لعبادةٍ جديدة
في الإسلام، هي السعي خارجَ الصفا والمروة، وقد قال سيدنا رسول الله r:
" مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ " (متفق عليه)، وقال r:
" مَن صَنَعَ أمراً مِن غير أمرنا فهو مردود " (مسند أحمد)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 20/332:
( ثَبَتَ عن ابن مسعود t
أنه قال: قد أصبحتم على الفِطرة، وإنكم ستُحْدِثُونَ ويُحْدَثُ لكم، فإذا رأيتم
مُحْدَثةً فعليكم بالهَدْي الأَوَّل ).
********************
خاتمة
سأجعل خاتمة
كتابي هذا على شكل نقاط محددة مسرودة:
ü
لا يصح السعي ولو خطوةً واحدةً في المسعى الجديد، فإذاً
لا يَقبل الله تبارك وتعالى حجنا ولا عمرتنا ولا يكونان مبرورين إلاّ إن
سعينا في مسعى النبي صلى الله عليه وسلم ذهاباً وإياباً، وهذا يعني على الأرض أننا
سنسعى الأشواط السبعة ذهاباً وإياباً ضمن المنطقة المخصصة لعودة الساعين من المروة
إلى الصفا، وهنا لا بدّ لي من تذكير وتحذير المسلمين من
أن تحقيق السعي الصحيح لا يُبَرِّرُ إيذاء المسلمين أو دفعهم أو الوقوف
بوجوههم، فبإمكانك تصحيح سعيك مع عدم إيذاء أحد، باختيارك وقتاً مناسباً أو طابقاً
مناسباً لسعيك من غير إيذاء أي مسلم ([76]).
ü
ذكر السخاوي في الضوء اللامع 5/84 أن معوضة كان فقيراً صادقاً لا يَسكت عن منكر أبداً، فكان يحمل عصا
يَحول بها بين الرجال والنساء في المطاف، ويُرجِع أهل الدكاكين في المسعى توسعةً
للساعين، ولما أراد سلطان بنجالة بناء مدرسة بمكة وأرادوا بناء الحائط معتدين على
حق الله اضطجع في محل البناء وقال لهم: ابنوا فوقي، فبذل السلطان لحاكم مكة مالاً
فعجز عن دفع معوضة. توفي معوضة سنة 816هـ رحمه الله، أفلا يكون عندنا غيرةٌ على شعائر الله مثل غيرة هذا الرجل
يرحمنا الله بها؟
ü
الفرق كبير بين اقتدائنا بالنبي r وبين اقتداء الصحابة الكرام، فأمّا نحن أو بعضُنا فيترك
السعي في المكان الذي سعى فيه النبي r وأمَرنا أن نسعى فيه وسعى فيه جميعُ المسلمين دون
استثناء حتى عام 1428هـ، وأمّا الصحابة الكرام فما أكثر المواقف التي تعبر عن
مدى تعلقهم باتباع النبي r، وسأكتفي بمثال أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (1790) عن عُبَيْد الله بن عباس t قال: (كان للعباس مِيزاب على طريق عمر بن الخطاب، فلبس
عمر ثيابه يوم الجمعة، وقد كان ذُبِحَ للعباس فرخان، فلمّا وافى الميزابَ صُبَّ
ماءٌ بدمِ الفرخين، فأصاب عمرَ وفيه دم الفرخين، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح
ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه، ثم جاء فصلّى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه
لَلْموضع الذي وضعه النبيُّ r. فقال عمر للعباس: وأنا أعزِم عليك لَمَا صعدتَ على
ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله r، ففعل ذلك العباسُ رضي الله تعالى عنهما).
ü
لقد سعى النبي r في المسعى بين الصفا والمروة على الرغم من وجود بيوت في
منتصف وعلى يمين ويسار الطريق بين الصفا والمروة، وهذا يدل على وجود سرٍّ في هذا
المكان لا نعلمه، وإلاّ لكان النبي r قد سعى في أي طريق من الطرق المحيطة بالحرم أو القريبة
من الصفا والمروة، وسواء أدركنا سر المكان أم لا فلن نترك مكاناً سعى فيه حبيبنا
رسول الله r ولن نسعى بمكان لم يسعَ فيه حبيبنا رسول الله r، ورحم الله سيدنا عمر القائل: (فِيمَ الرَّمَلانُ الآنَ
والكشفُ عن المناكِب وقد أَطَّأَ الله الإسلام ونَفَى الكفر وأهله؟! ومع ذلك
فلا ندع شيئاً كنا نفعله في زمن رسول الله r) ([77]) .
ü
مدى
أهمية دَور الإعلام في زرع وتغيير عقائد المسلمين وأفكارهم: فمسألة تحديد مكان
السعي قد أجمع عليها العلماء سابقاً، كما بينته لك في هذه الرسالة، وكذلك أغلب
العلماء والمفتين في هذا العصر، ومع هذا فعندما بيّنتُ إجماع الأمة على حرمة توسعة
المسعى [قبل طبع هذا الكتاب] اتصل بي وكلمني كثير من عوام الناس وطلاب العلم
وعددهم بالمئات بما ملخّصه أنّ جواز السعي بالمسعى الجديد قد أجمعت عليه الأمة
وأنه لا يوجد ولا عالم واحد من كل العالَم قال بعدم الجواز ([78]).
ü
عندما
قرأت قول الإمام النووي في المجموع 8/76:
(السعي ركنٌ من أركان الحج، لا يتمّ الحج إلاّ به، ولا يُجبر بدم، ولا يفوت ما دام
صاحبه حيًّا، فلو بقي منه مرة من السعي أو خطوة لم يصح حجُّه، ولم يتحلل من
إحرامه حتى يأتي بما بقي، ولا يحلُّ له النساء وإن طال ذلك سنين) وقارنته بما
يفتيه بعض إخواني المشايخ عن غير علمٍ فزعتُ.
فأرجو من
المشايخ الذين يبيحون السعي في المسعى الجديد أن يقرؤوا قبل أن يفتوا، لأنّ الأمر
أخطر مما يتصورونه، وقد جاء في الخبر: " أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار
" ([79]).
وأقول لكلّ مَن
يفتي بصحة السعي في المسعى الجديد: أنت تضع في ذمتك ملايين من المسلمين، كلُّ واحد
منهم سيبقى محرماً حتى موته، وكل ما يفعله من مخالفات الإحرام فأنت المسؤول عنه،
هذا على قول الشافعية والمالكية والحنابلة، وأمّا على قول الحنفية فيجب على كل
واحد منهم دم لأنه لم يسعَ 4 أشواط في مكانها الصحيح، وكل هذا في رقبتك وستسأل عنه
يوم القيامة، يوم تتمنى أن تتخلص من كل سيئة فعلتها، فلماذا تحمّل نفسك ملايين
السيئات، وتترك بعد موتك نهراً من الخطايا يدخل ميزانك ولا يقف حتى يموت آخر حاج
ومعتمر من خلق الله؟ فالله الله في دين الله وفي شعائر الله.
وكم أعجبني
تعظيم شيخٍ ماليزيٍّ [اسمه وفدي بن حرزيد] لشعائر الله عندما سأله شيخٌ في المسعى:
هل تستطيع أن تقول بأن كلَّ هؤلاء الساعين على خطأٍ؟! فأجابه الشيخ وفدي: بل هل تستطيع أنت أن تفتي
بأن السعي خارجَ مسعى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح؟!!
وأخيراً سأنتقي
للمفتين بعضَ النصوص من كتاب إبطال الحِيَل لابن بطة المتوفى سنة 387هـ: (عن عمر بن الخطاب t أنه قال: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار
" ........ عن عبد الله بن مسعود t أنه قال: " إنّ مَن يُفتي الناس في كلِّ ما
يَستفتونه لَمجنون " ......... أنّ ابن حصين قال: " إنّ أحدهم
ليفتي في المسألة لو وَرَدَتْ على عمر لَجَمعَ لها أهلَ بدر "........ قال لي ابنُ خلدة: " يا ربيعة إني أرى الناس قد أحاطوا بك،
فإذا سألك الرجلُ عن مسألة فلا تكن هِمَّتك أن تُخَلِّصه، ولكن لتكن همتك أن تخلص
نفسك "......قال رسول الله r: " لا تَرتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتَستحلُّوا
محارم الله بأدنى الحِيَل " ([80])).
********************
ملحقٌ بأن رمي الجمار أغلبه لا يصح أيضاً
لقد وسّع
القائمون على مشاعر الحج موضع رمي الجمرات، فكانت في مكان محدَّد على سطح الأرض،
نقل إلينا بالتواتر، وأجمعت الأمة على عدم صحة الرمي إلاّ إذا نزلت الجمار في هذه
البقعة المحددة على سطح الأرض، وهذا المكان تعبدي لا يصح توسيعه ولا تغيير موضعه،
ويصح بناء جسور متكررة ويكون شكل ومساحة مرمى الجمار على الجسور كما تشاؤون ولكن
بشرط أن تقع الجمار في النتيجة في البقعة المحددة على سطح الأرض، وكل هذا الكلام
لا خلاف حوله في الأمة، ولكن الذي فعلتموه أنكم وسّعتم المرمى عدة أضعاف فصارت
الجمار يسقط قليل منها في الموضع الصحيح، ولكن الغالبية من الجمار تسقط خارج هذه
البقعة، وهذا يجعل رمي غالبية الناس غير صحيح، وكل هذا التغيير الخطير جداً في
عبادة الرمي لم تُطلعوا علماء الأمة عليه ولم تسألوهم عن حكمه قبل فرضه على
أرض الواقع، وقلتم بأنكم فعلتم هذا لتوقفوا موت الناس عند الجمرات، فنقول لكم: يجب
أن تُبقوا البقعة المحددة على مستوى سطح الأرض كما هي من غير توسيع، ثم ابنوا من
الجسور فوقها وكبّروا شكل المرمى في هذه الجسور كما تحبون، فالمهم أن تسقط الجمار
في النتيجة في البقعة المحددة على سطح الأرض، وإنكم قد كتمتم عن المسلمين وعلمائهم
هذا التغيير، ولم
تطلعوا المسلمين على مكان الرمي الصحيح ولا على أي شيء يتعلق بهذا الموضوع الخطير
جداً.
فأرجو ممن لديه
غيرةٌ على شعائر الله ونصرةٌ لدين الله ويستطيع الوصول لمعلوماتٍ حولَ مكان رمي
الجمار الصحيح أن ينشرها.
********************
فِهرست المواضيع
مقدمة
الفصل
الأول: موقفنا من شعائر الله U ......
...... ...... ...... ...... 5
الفصل
الثاني: إجماع الأمة أنه لا يصح
السعي خارج المسعى
المبحث الأول: دليل أن السعي محدد وغير قابل للزيادة ...... ... 7
المبحث الثاني: الإجماع على أن المسعى بين الصفا والمروة
حصراً... 9
المطلب الأول: كلام أئمة الدين وكبار المؤرخين...... ...... 9
المطلب الثاني: لم ينقل جواز توسعة المسعى ...... ...... .. 10
المطلب الثالث: كلام المتأخرين والمعاصرين...... ...... .... 14
الفصل
الثالث: اهتمام أئمة المسلمين بضبط
عرض المسعى...... ...... .... 18
الفصل
الرابع: تحديد عرض المسعى بالأذرع
والأمتار ......
...... ...... .. 24
المبحث الأول: من كلام العلماء المؤرخين...... ...... ...... ... 24
المبحث الثاني: من كلام المتأخرين......
...... ...... ...... ... 27
الفصل الخامس: بيان بطلان الشبه التي احتج بها مبيحو التوسعة ...... ..... 29
المبحث الأول: بيان بطلان الشبه إجمالاً ...... ...... ...... .... 29
المبحث الثاني: تفصيل شبه الإباحيين ......
...... ...... ...... 30
الشبهة الأولى: شهادة الشهود، وفي التعليق شبهة علماء
الجيولوجيا 31
الشبهة الثانية: قاعدة الصفا والمروة أعرض ...... ...... ... 38
الشبهة الثالثة: حكم الحاكم يرفع الخلاف ...... ...... ... 42
الشبهة الرابعة: الضرورات تبيح المحظورات...... ...... ..... 43
الشبهة الخامسة: لا يوجد إجماع عملي ...... ...... ...... 46
الشبهة السادسة: كان المسعى عريضاً ...... ...... ...... 46
الشبهة السابعة: السعي بالصفا والمروة وليس
بينهما ...... 48
الشبهة الثامنة: أحاديث تدل على اتساع الصفا ...... ..... 49
الشبهة
التاسعة: لا يوجد نص يحدد عرض المسعى ...... ... 51
الشبهة
العاشرة: للزيادة حكم المزيد ...... ...... ...... ... 51
الشبهة
الحادية عشرة: إذا اختلف العلماء نتبع من نريد ...... 52
الشبهة
الثانية عشرة: توسعة المسعى مثل توسعة المطاف ...... 53
الشبهة الثالثة عشرة: كان المسعى في المسجد ثم نقل ...... ... 54
الفصل
السادس: أدلة مبسَّطة على حرمة
توسعة المسعى ...... ...... ...... . 57
الفصل
السابع: ما حكم عمرة أو حج مَن سعى
في المسعيَين معاً؟ ...... ...... 59
خاتمة ......
...... ...... ...... ...... ...... ...... ...... ...... ...... 61
ملحقٌ بأن رمي الجمار أغلبه لا يصح
أيضاً ...... ...... ...... ...... ...... 64
********************
B
عَقْد الصفا
عَقْد المروة
جبل أبي
قُبَيْس بعد إزالة كل ما عليه من أبنية، ويظهر عَقْدُ الصفا بوضوح
وفي هذه الصورة
يظهر أن صخرات الصفا محدّدة وأنها جزء معيّن من الجبل
********************
(إن الصفا والمروة من شعائر الله) البقرة 158
(ومن يعظم
شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج 32
(يا أيها الذين
آمنوا لا تُحِلُّوا شعائر الله)
المائدة 2، وإحلالُها أن
يُتهاوَن بِحُرمتها.
********************
أوضح بدعة سيئة في الإسلام هي بدعة توسعة
المسعى
([1])
هذا أمر متكرر مع جميع الحكام، وفي سِيَر أعلام النبلاء للحافظ الذهبي 5/151
أن الخليفة يزيد بن عبد الملك قال عندما استلم الحكم: (سِيروا بسِيرة عمر بن عبد
العزيز، فأُتِيَ بأربعين شيخاً شَهِدوا أنّ الخلفاء ما عليهم حسابٌ
ولا عذابٌ).
([3])
قال الإمام العَيني في عمدة القاري 9/285: (قال الحسن البصري:
شعائر الله: دين الله). وقال أبو البقاء في الكُلِّيات 1/852:
(شعائر الله: دين الله أو فرائض الحج ومواضع نُسكه أو الهدايا).
([4])
هذا المعنى مقتبَس من استعمال الكلمة في اللغة العربية، وإلى هذا المعنى أشار كثير
من العلماء، قال الشَّوكاني في فتح القدير 3/646:
(الشعائر: جمع الشعيرة، وهي كلّ شيء فيه لله تعالى شِعار، ومنه شِعار القوم في
الحرب وهو علامتهم التي يتعارفون بها......... فشعائر الله أعلام دينه).
([5])
كما بيَّنتْها روايةُ ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2/5
من كلام ابن إسحاق، وكذلك فسرها الإمام السيوطي في الدُّر المنثور 6/44
عند
إيراده الحديث. وقال غيرهم: إن المراد الكعبة.
([6])
أخرجه أحمد في مسنده برقم (19049)، وغيره بألفاظ
متقاربة، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 3/449 وفي 5/237:
(سنده حسن. فنسأل الله تعالى الأمن من الفتن بحلمه وكرمه)، وهذا مُقدَّم على قول
محقق المسند: (إسناده ضعيف).
([12])
لا يصح احتجاج مبيحي التوسعة بهذا، لأنّ التوسعة خرجت عن المسعى خروجاً كاملاً،
وهذا أكثر من الخروج الكثير بكثير جداً، وأمّا صحة السعي مع الخروج الكثير أو
الكامل فهذا لم يُنقل عن أي عالم ولا حتى أي مسلم مهما كان مذهبه أو نِحلته
ولو على سبيل الشذوذ، فللقارئ الكريم أن يتصور إلى أيّ مدى خالف مبيحو
التوسعة الإجماع، وسيأتي معك قريباً أن مبنى المسعى الذي بناه الملك فهد قد استوعب
هذا الخروج اليسير بالكامل.
([13])
وهو عبارة عن ثلاثة قناطر على الصفا وقنطرة كبيرة على المروة، بناها سَلَفُ الأمة
لتحديد المقدار الواجب الصعود إليه عند الصفا وعند المروة، وقد حافظ عليها
المسلمون منذ بنائها وحتى إزالتها في التوسعة السعودية الأولى للحرم، وسيأتي تفصيل
ذلك، وهذه القناطر مصوَّرة بصور "فتوغرافية"
واضحة قبل إزالتها، اضغط
هنا لرؤيتها، وهي أيضاً منشورة مع شرحها بالتفصيل في الفيديو: https://youtu.be/Hu03r15AdvQ
([14])
وذكرت اللجان العلمية وقتها أن هذه القناطر لا تشمل كامل عرض المسعى، ومن هذه
اللجان اللجنة المجتمعة بتاريخ 10/2/1378هـ: (......ولكون
الصخرات المذكورة [أي: الصفا] لا تزال موجودة للآن وبادية للعِيان، ولكون العقود
الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضًا........)، وهذا البيان سيأتي تفصيله
بعد قليل.
([15])
ذكرت اللجنةُ العلمية أسبابَ اتخاذها قرارَ بناء المسعى على الهيئة الحالية
بقولها: (...... وأنّ مكان السعي تعبدي، وأنّ الالتواء اليسير لا يضر، لأنّ
التحديد المذكور بعاليه للعرض تقريبي، بخلاف الالتواء الكثير كما تقدمت الإشارة
إليه في كلامهم فإننا نقرر ما يلي: .......)، وانظر مقتطفات من قرار هذه اللجنة في
المطلب التالي.
([16])
ومنهم المؤرخ محمد طاهر الكردي وهو ممن شارك في التوسعة السعودية وفي ضبط حدود
المسعى، وقد شرح موقفه ودليله في كتابه التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم 5/358
فليُرجَع إليه لزاماً.
([17])
هو الحائط الأبعد عن الكعبة، وبعد هذا الحائط بُنِيَ المسعى الجديد، فانظر إلى أيّ
مدى يبتعد الساعي في المسعى الجديد عن مكان السعي الصحيح.
([21])
عدد العلماء المجتمعين 19 عالماً، أفتى 16
منهم بحرمة توسعة المسعى، وتحفظ اثنان ولهم وجهة نظر مختلفة [سيأتي كلامهم والرد
عليه في الفصل الخامس]، وتوقف واحد عن الإفتاء، ثم بعد المباشرة بهدم المسعى
وتوسيعه تراجع واحد من الستة عشر وأفتى بإباحة توسعة المسعى قائلاً: (........وحيث
اختار وليُّ الأمر القولَ بجواز التوسعة، وقد قال بهذا القول بعضُ أعضاء هيئة كبار
العلماء، ووليُّ الأمر هو الحاكم العام........)، وقد أجبتُ عن الشُّبه التي
أوردها ضمنَ الفصل الخامس في الردِّ على شبه المبيحين.
([24])
أخرجه الطبراني في الكبير 24/206 وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 6/64
والبيهقي في السنن الكبرى 5/98.
([25])
سأبقي من كلامه ما يعنينا في مسألة تحديد أبعاد المسعى دون مراعاة وضوح الفكرة
التي يتكلم عنها الأزرقي، وكذلك الأمر في أغلب النقول في هذا المبحث.
([27])
إن جميع النقول التي أوردتها في السياق والسباق توضح تماماً المعنى الذي ذكرته في
بداية هذا المبحث، ولكني أرجو التدقيق في دار عباد بن جعفر وأمثالها من البيوت،
لأنه لما كان موضع المسعى محدداً بدقة وكانت هذه البيوت يقع قسمٌ منها في منطقة
المسعى وقسم خارجَه، وأرادوا إفراغ منطقة المسعى من البيوت، هدموا القسم الداخل
ضمن المسعى وتركوا القسم الخارج عن حد المسعى، فكلُّ هذا يبين بوضوح وبيقين أنّ
حدّ المسعى معروف بدقة وبدون خلاف بين الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأرجو من
القارئ الكريم أن يعود لكتب التاريخ التي تذكر ضمنها تاريخ منطقة السعي ويقرأها
كلها ليعلم هذا المعنى بوضوح ويقين أكثر من الوضوح الناتج عن هذه المقتطفات
المختصرة التي أوردتها في هذا المبحث.
([28])
"كَدَا" موضع قرب الصفا، وثمة أماكن أخرى في مكة لها أسماء مشابهة مثل:
كَدَاء، كُدَيْ، كُدَيّ، كُدًى. راجع معجم المعالم الجغرافية ولسان العرب، كلاهما
في مادة "كدا".
([29])
قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات 4/5:
( اعلم أن السعي وهو ما بين الصفا والمروة وادٍ، وهو سوق
البلد)، وقال المقدسي في أحسن التقاسيم 1/43: (وبمكة تُنصب القباب ليلة الفطر ويزين السوق بين الصفا
والمروة)، وقال ابن جبير في رحلته 1/31: (وما بين الصفا والمروة مسيل هو اليوم سوق حفيلة بجميع
الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية، والساعون لا يكادون يخلصون من
كثرة الزحام، وحوانيت الباعة يميناً وشمالاً، وما للبلدة سوق منتظمة سواها إلاّ
البزّازين والعطّارين)، وقال ناصر خسرو في سَفَرْنامَهْ 1/33: (وما يسمَّى السعي بين الصفا والمروة هو المسعى في هذه
السوق مِن أولها لآخرها). وقال عطية محمد سالم في دروس شرحه على
بلوغ المرام عند وصفه لما كان عليه المسعى قبل التوسعة السعودية: (وكان المسعى سوقاً وعلى جانبيه الدكاكين والمطاعم، وهذا
كما كان عليه في السابق).
([30])
انظر - أخي القارئ – إلى أنّ التحديد دقيق لدرجة استخدام الإصبع في القياس على
الرغم من أنّ المسافة طويلة، ولكن هذا يبين لنا مقدار دقة وأهمية تحديد مكان
المسعى كي لا نزيد عليه أبداً.
([31])
انظر إلى أنه وقع فارق بسيط جداً في قياس المسافات بين
بعض الأعلام التي قاسها كل من الأزرقي والفاكهي والفاسي، والسبب هو بساطة الأدوات
التي استعملوها وعدم دقتها بالنسبة لطول المسافات بين الأعلام، وليس السبب هو
اختلاف مواضع الأعلام عبر العصور، لأن هذه الأعلام بقيت في مكانها منذ عصر التابعين
وحتى ما قبل 50 سنة من الآن [تاريخ الطبعة الأولى لهذا الكتاب] كما سأذكره مفصلاً في
موضعه.
([34])
هنا بعضها: https://1drv.ms/f/s!AgZYgrAn8ocH1L8vKdHcUP9JZP_kMg?e=q1RYY3
([35])
مثل مخطط الرحالة "بوركهارت" وصور المصوِّر "سنوك هروجنيه"،
وانظرها في الصفحة المذكورة في التعليق السابق.
([36])
نص البيان كاملاً مع أسماء العلماء وتوقيع مفتي عام
المملكة في حينه يمكن مراجعته كاملاً في "فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل
الشيخ" 5/141
([37])
سأترك للقارئ الكريم أن يدرك بذكائه ماذا يعني في بلادنا العربية أن يأتي مسؤول
رفيع المستوى ويُحضِرَ معه شهوداً.
([39])
رجل عمره 76سنة
يشهد بما يتذكره عندما كان عمره أقل من 24سنة، وإن اختيار رقم 38 عليه علامة استفهام، كما أن الشهادة مبهمة، لأن قوله:
(ما لا يقل عن 38 متراً) يَدخل
فيه الأربعون والخمسون والمائة والألف متر.
([40])
هذا الفعل كان يحصل من قِبل بعض الجهلة، وكان العلماء
ينبهون ويحذرون من هذا الفعل، ومن أجل هذا الخطأ الذي كان يحصل لبعض الناس فقد
شُكّلت لجنة بتاريخ 23/9/1374هـ من كبار العلماء لبناء جدار يمنع خروج الجهلة من المسعى، ومما جاء في
تقريرها: (.......ونظرًا إلى أنه في أوقات الزحمة عندما ينصرف بعض الجهال من أهل
البوادي ونحوهم من الصفا قاصدًا المروة يلتوي كثيرًا حتى يسقط في الشارع العام
فيخرج من حد الطول من ناحية باب الصفا والعرض معًا ويخالف المقصود من البينية بين
الصفا والمروة......)، وقد أقر هذا التقرير الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي عام
المملكة ورئيس القضاة بقوله: (...... فإنه لا يسوغ السعي فيه. فبعد الوقوف على هذا
الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا......)، ونصُّ التقرير مع
كامل التفاصيل موجود في كتاب "فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم" 5/139، فإذاً الشاهد
يتذكر ما كان يفعله الجهلة ثم يحتج به، ويريد منا أن نأخذ بشهادته ونترك كلام
العلماء الذين عبّر عنهم بقوله: (يعتبرونها).
([42])
رجل عمره 68 سنة ويشهد بما يذكره عندما كان عمره أقل من 14سنة! فهل نأخذ
بشهادة صغيرٍ ونترك شهادة العشرات من كبار العلماء؟!
([43])
لم يبحث القاضي عن عدالة وصدق الشهود، بل كتب ما قالوا،
فأصدر صكاً بكلامهم، فرجع المسؤول الذي أحضرهم مجبور الخاطر.
([44])
ومِمّا يؤكد هذه النتيجة أن عميد المعهد استخدم الطريقة
نفسها عندما أعلن بشكل رسمي أن علماء الجيولوجيا أثبتوا اتساع عرض الصفا والمروة،
والحقيقة باختصار هي التالي: جميع علماء الجيولوجيا أثبتوا أن صخرة الصفا جزء من
جبل أبي قُبَيس ولها نفس تركيبة الصخور، وأن صخرات المروة جزء من جبل قُعَيقِعان
ولها نفس تركيبة الصخور، وهذا يوافق ما قاله جميع العلماء من محدثين وفقهاء
ومؤرخين، مما يعني أننا لو فحصنا تركيبة أي صخرة من جبل أبي قبيس لوجدناها متطابقة
مع تركيبة صخور الصفا ولو ابتعدنا عن الصفا عشرات بل مئات الأمتار، ومثل هذا القول
يقال في المروة مع جبل قعيقعان، وهذا الكلام لا يختلف عليه اثنان، ولكن التدليس
والإيهام جاء عندما طلبَ مديرُ المعهد من هيئة المساحة أن تفحص الصخور من جهة
الشرق للصفا والمروة، ففحصت الهيئة الصخور على أبعاد مختلفة وأصدرت تقريرها بأن
هذه الصخور متطابقة، فقدّم مديرُ المعهد لهذا التقرير ونشره على أن (علماء
الجيولوجيا أثبتوا أن الصخور على بُعد 30 متراً شرقَ الصفا متطابقةٌ معه مما يدل
على أن الصفا ممتد لهذا المكان، وأثبتوا أن الصخور على بُعد 31 متراً شرقَ المروة
متطابقةٌ معها مما يدل على أن المروة ممتدة لهذا المكان)،
فانظر أخي
القارئ إلى هذا الأسلوب في التمويه والخداع، بل إن القارئ لكلامه ليظن أن الدقة
وصلت إلى درجة أن المروة أكبر من الصفا بمتر واحد فقط!!!
وإني لا أعجب
من مدير المعهد بمقدار ما أعجب من عالم على حافة قبره من علماء "هيئة كبار
العلماء" عندما أفتى بإباحة التوسعة ثم ألّف كتاباً وطبعه طبعة فاخرة ونشره
بعِدّة لغاتٍ وبأعداد مفتوحة وكان من أهم أدلته (شهادة الشهود وعلماء الجيولوجيا)،
بل وصل الأمر به أن أفتى بفرْضية التوسعة لا إباحتها فقط، ومِن هذا الكتاب نقلتُ
نَصَّ شهادة الشهود، ونقلتُ مختصر كلام مدير المعهد وتقرير هيئة المساحة، وهذا
الكتاب اسمه "توسعة المسعى عزيمة لا رخصة" للأستاذ الدكتور عبد الوهاب
إبراهيم أبو سليمان.
([46])
أخرجها مسلم برقم (353)، وأحمد في مسنده برقم (15955)،
والنسائي في الكبرى برقم (10815)، وابن منده في
الإيمان برقم (953)
وغيرهم كثير، وأغلب رواة الحديث يذكرون هذا اللفظ.
([57])
في كتابه "سَفَرْ نامَه" 1/30، وهذا الكتاب هو
أشهر وأقدم رحلة وصلتنا لرجلٍ فارسي، وقد ابتدأ الرحالةُ رحلته في ربيع الآخر سنة 437هـ.
([58])
قال الفاسي في شفاء الغرام 2/175 في أحداث سنة 619هـ:
(مات بالمسعى جماعة من الزحام لكثرة الخلق الذين حجوا في هذه السنة من العراق
والشام)، وقال الحافظ ابن حجر في إنباء الغمر 1/97
في أحداث سنة 784هـ:
(وفيها كان الحاج بمكة كثيراً بحيث مات من الزحام بباب السلام أربعون نفساً أخبر
الشيخ ناصر الدين بن عشائر أنه شاهد منهم سبعة عشر نفساً موتى بعد أن ارتفع
الزحام)، وقال ابن جبير في رحلته 1/40 في أحداث سنة 579هـ
واصفاً ما عاناه من ازدحام المسعى أثناء تأديته للعمرة: (وجئنا للسعي بين الصفا
والمروة............ فعاينا ليلةً هي أغرب ليالي الدنيا، فمَن لم يُعايِن ذلك لم
يعاين عجباً يُحدِّثُ به، ولا عجباً يُذكِّرُه مرأى الحشرِ يومَ القيامة لكثرة
الخلائق فيه).
([59])
بدأت تظهر رسائل وكتب تقترح تغيير بعض شعائر الله تحت حجة الضرورة، ومنها كتاب
لدكتور في الشريعة يعرض فيه توسيع مكان مزدلفة للضرورة، وظهر أكثر من كتاب ومقالة
تطالب بتوسيع زمن الوقوف بعرفات ليشمل كلَّ الأشهر الحرم أو كل أيام السنة،
وعندما سئل بعض "الدكاترة" مِن مبيحي توسعة المسعى للضرورة عن إمكانية
توسعة عرفات وغيره قال: (نوسّع كيفما نشاء للضرورة). فصدق رسولُ الله r عندما أخبرنا عمّا سيكون عليه الأمر في آخر
الزمان بقوله r:
"......اتَّخَذَ الناسُ رؤوساً جهالاً فأفتَوا بغير عِلم فضَلُّوا
وأَضَلُّوا" [متفق عليه]، ولن نعجب بعد هذا إذا قام من يطالب ببناء كعبة
ثانية، وهذا بالنسبة لشعائر الله، أما بقية حدود الله فإنها مخترَقة منذ زمنٍ بحجة
الضرورة والتيسير وفهم مقاصد الشريعة.
([60])
ومن أجمل ما قرأته فيها ما قاله أبو حَيّان في تفسير البحر المحيط عند تفسير
الآية: (وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة، فمن سعى بينهما من غير صعود
عليهما لم يُعَدَّ طائفاً).
([61])
البخاري برقم (4687) ومسلم برقم (355)، وأنبه هنا إلى أن عدة مشايخ أوردوا هذا الدليل
وجميعهم أحالوا الحديث إلى البخاري فقط، وعموماً فمن خلال قراءتي لجميع كتب
ومقالات مبيحي توسعة المسعى فقد وجدت لديهم أخطاء كثيرة تُخرج مرتكبها من كثرتها
عن كونه من العلماء المقبول منهم أن يتصدروا لإفتاء الأمة، وهذا يدل على أن مبيحي
التوسعة أغلبهم مشايخ لا يقرؤون كتب أئمة الدين، بل ينقلون ما يذكره غيرهم من غير
عزوٍ له ليوهموا الناس أنهم علماء.
([62])
لذلك فالفرق شاسع بين فقهاء زماننا والفقهاء، فهذا
الإمام الشافعي بقي عشرين سنة مقيماً على تعلم العربية وأيامِ الناس عند قبيلة
هُذَيل في بادية مكة، ثم قال: (ما أردت منه إلا الاستعانة على الفقه)
موسوعة الإمام الشافعي 1/46
([64])
وممن نقل هذا الإجماع الإمامُ ابن المنذِر في كتابه "الإجماع" ص48،
والإمام النووي في المجموع 8/42.
([68])
لم أنقل كل كلام الإمام الأزرقي لأنه طويل، ولأنني لن أناقش عباراته، وإن كنت أرجو
القارئ الكريم أن يقرأها كاملة ليرى أن الأزرقي استعمل أحياناً كلمة
"المسعى" وأحياناً كلمة "الوادي" مما يؤكد أن مراده مكان
الهرولة بين الميلين الأخضرين، ولكن بما أنه لا يوجد دليل قطعي على هذا الكلام
لذلك ناقشت المبيحين باعتبار فهمهم من ظاهر عبارة الأزرقي التي نقلوها، علماً أن
كلام الأزرقي نقله أيضاً الفاكهي في أخبار مكة 3/464
وابن الضياء في تاريخ مكة 1/72
([69])
إن الإمام الشافعي سكن بمكة في شِعب الخَيْف منذ كان
عمره سنتين عام 152هـ حتى حفظ
القرآن ودرس العلوم على أئمة الحرم وحتى قال له شيخه: (آن لك أن تفتي)، وكل هذا
قبل توسعة الخليفة المهدي، ثم بدأ أسفاره، ثم استقر بمكة أكثر من تسع سنوات وكان
هذا الاستقرار بُعَيد انتهاء أعمال توسعة المهدي، فانظر إلى أي مدى هو قرب هؤلاء
الأئمة من الحرم وإدراكهم للتعديلات فيه.
([70])
المراد مكان الهرولة بدليل السياق والسباق مما نقلته
ومما لم أنقله، فيرجى الرجوع لكلام القطبي كاملاً.
([71])
في المطبوع "الأذرعي" والظاهر أن هذا خطأ
مطبعي، وقد وصلتُ لهذه النتيجة بعد بحث طويل، والله أعلم.
([76]) بعد إصدار هيئة كبار العلماء قرارها بعدم
صحة توسعة المسعى قام أحد العلماء باقتراح فكرةٍ على المسؤولين عن توسعة المسعى،
وأنا أجد إلى الآن أن ما يجري على الأرض يوافق هذه الفكرة، لذلك قررتُ ذكرها
لتحذير المؤمنين منها على فرض استمرار العمل بمقتضاها قصداً أو مصادفةً، فمختصر
هذه الفكرة كما قال صاحبُها: (أن يتوقف المسؤولون عن توسعة المسعى عن إثارة موضوع
جواز التوسعة أم حرمتها، ويباشرون بالتوسعة بأسرع وقت ممكن، ثم فرض الموضوع على
أرض الواقع، وبعدها سنجد أن أغلب علماء العالم أجازوا التوسعة لأنها مهمة أو لأنها
أمر واقع أو لأن الفتوى بعدم صحتها سيتسبب بمشاكل، وسنجد أن الذين سيفتون بحرمة
التوسعة قلائل العدد وغير مسموعي الصوت، وأيضاً فالغالبية العظمى من الناس سيسعون
بالمسعى الجديد بحسب الإشارات التي يضعها القائمون على شؤون الحرم، وبذلك سيخرس
[هذه اللفظة نقلتها بالحرف!!] كلُّ مَن يقول بحرمة التوسعة، وخاصةً إذا جرتْ
حادثةُ تدافعٍ في المسعى بسبب الجهلة الذين يريدون السعي في المسعى القديم فقط)،
هذه هي الفكرة التي أخشى أن تنتهي فصولها بمشكلة في حج هذا العام 1429هـ، لذلك وجب عليّ تحذير المسلمين من ارتكاب حرمتين عظيمتين، الأولى
السعي بالمسعى الجديد، والثانية إيذاء أي مسلم وخاصة بحرم الله وفي بيته الحرام،
وأقول أخيراً: إذا حصلتْ مشكلة لا سمح الله ولا قدر فينبغي أن نزيل الخطأ والإثم
لتجنب تكرار المشكلة، لا أن نزيل الصواب وأَمْرَ الله تعالى، فما أشبه هذه المسألة
بمسألة احتلال الصهاينة لفلسطين، فبعد أن طرد الصهاينةُ أصحابَ الأرض قالوا لهم
نريد سلاماً، فهل ستقف أخي المسلم مع الصهاينة باعتبار الأمر الواقع وإنهاء
المشكلة وتقولُ للفلسطينيين عليكم نسيان أرضكم، أم إنك ستقف مع الحق حتى يرجع
لأهله؟
([78])
راجع (الدافع
لكتابة هذا الكتاب) في المقدمة لتعلم الأسلوب الذي اتبعه الإعلام للوصول إلى هذه
النتيجة المخالفة للواقع، وللإعلام دور رئيس في قلب الحقائق لأكثر من موضوع، ومن
هذه المواضيع: احتلال الصهاينة لفلسطين، المحرقة، اكتشاف كولومبس لأمريكا، حقيقة
دين الإسلام.